العالم الآن

صناعة الالتباس…!

من تفجير السان جورج إلى تفجير مرفأ بيروت

في 14 شباط 2005، وقع انفجار كبير أمام فندق السان جورج في بيروت، تبين فوراً أنه استهدف موكب رفيق الحريري، الذي قتل مع عدد من مرافقيه. بضعة دقائق مرت، لا أكثر، كانت كافية كي يبدأ (مصنع الالتباس) في صياغة (الحدث)، وفق المواصفات النموذجية التي تبقيه قيد الاستثمار لأجلٍ غير مسمّى!

و (مصنع الالتباس)، هو نسق متكامل بـ (أفلاكه) الدولية والإقليمية والمحلية، من إجراءات ممنهجة (قرارات سياسية – مظاهرات شعبية – اصطفافات سياسية جديدة…….)، يرافقها خطاب اعلامي، تتم صياغته تأسيساً على منصة [الحدث – الملك]، وهو هنا مقتل الحريري، بمصطلحات وعبارات محددة، يتم تكرارها على التوازي مع خط الإجراءات المتلاحقة، لتشكيل ضغط كبير على جبهة الخصم وإجباره على التراجع واتخاذ موقف دفاعي، بالتغاضي عن التأكد من مسؤوليته عن وقوع هذا الحدث، ما يؤدي في النهاية إلى إنجاز أهداف تعود في مرجعيتها لاستراتيجية ما، لا يمكن لها أن تتحقق دون حصول هذه الحالة بمختلف فصولها.

مقتل الحريري هو [الحدث – الملك]، الذي استناداً إليه، تمت برمجة السياق الذي أخرج الجيش السوري من لبنان، وإعادة صياغة مواقع الساحة السياسية اللبنانية على نحوٍ مختلف، وزيادة منسوب حضور العامل الدولي، ومن ثم وضع (حقيقة) مقتل الحريري في (صندوق الالتباس) الذي يحافظ عليه التحقيق الدولي، ويوفر العوامل التي تجعله قيد الاستثمار، الذي يتم تحديد درجته حسب الحاجة المدرجة في الاستراتيجية التي وجد من أجلها، أو لحاجة مستجدة في الواقع.

منذ 14 شباط 2005، ولبنان يرزح تحت ضغط (صندوق الالتباس). الذين ساهموا في صنعه ليس لديهم القدرة على التحرر من طلباته المتوالية وموجبات استمراره، ولا الذين وقفوا في وجهه بقادرين على نسفه وإلغائه، وإعادة الحياة السياسية في لبنان إلى منصتها القديمة والمكشوفة.

في 4 آب 2020، وقع تفجير مرفأ بيروت الكارثي. أيضاً، دقائق قليلة مرت، والدخان لا يزال يعمي الأبصار، ليعود (مصنع الالتباس)، إلى عمله وبإيقاعٍ متسارع. الفارق الرئيسي بين التفجيرين يتمثل بعدم قدرة الفريق السياسي الذي لا يزال يستثمر في تفجير السان جورج، من مصادرة تفجير المرفأ، وإحالته إلى فائض استثماري مرجّح لقوته.

نظرياً، الطبقة السياسية اللبنانية، وخصوصاً منها، من كان في السلطة من العام 2013 وإلى هذا اليوم، ستكون تحت كابوس الاتهام بمسؤوليتها عن وقوع هذا التفجير. ها هنا يبدو (مصنع الالتباس) متجهاً لصياغات خيارات أوسع من تلك التي وضعها مع تفجير السان جورج. وهذه الخيارات هي (حريق عشوائي – حريق مفتعل – عمل مخابراتي – صاروخ بحري / جوي)، وكل هذه الخيارات تشكل مع بعضها عملية (التلّغيز الدائم) لحادث التفجير، حيث يتم الحفاظ على اللغز بانتفاء وجود صور جوية التقتطها الأقمار الاصطناعية الأميركية أو الفرنسية أو الروسية أو غيرها، فجميعها كانت محجوزة لتصوير عرس في جزيرة قبرص يحضره نتنياهو مع الحكومة الإسرائيلية!

تدعم عملية (التلّغيز) نفسها بجملة أسئلة مترابطة:

1 – مَن وراء نيترات الأمونيوم؟ من أين جاءت؟ وإلى أين؟ ولأي غرض؟

2 – لماذا تُركت مخّزّنة في أحد عنابر المرفأ طوال هذا الوقت؟ ومن هو المسؤول عن ذلك؟

3 – مَن كان على علمٍ بها؟ من موظفي المرفأ؟ من مسؤولي الدولة؟

بالمقابل، يتم استبعاد سؤال: من المستفيد؟ لأن وظيفته تفكيكية، قد يصل إلى عرقلة وإرباك (عملية تلّغيز) تفجير المرفأ، التي اختطفت لبنان كله، ووضعته قيد الاستثمار الخارجي الطويل الأمد، فيما ستظل الطبقة السياسية، تحت سطوة الأسئلة، ولن تتمكن من التحرر منها، إلاّ بفتح (صندوق الالتباس)، وإظهار الحقيقة كما هي، غير أن هذا الصندوق، أسوة بسابقه المُشكّل في 14 شباط 2005، مُحتجزٌ في موجبات استراتيجيات كبرى، ينهمك أصحابها في رسم خرائط الغاز وخطوط التجارة وأنابيب المياه، ومختلف المسائل العائدة إلى حقل المكاسب الجيوسياسية.

اشتُهر بار فندق السان جورج، بكونه المكان الذي يلتقي فيه مختلف عملاء الاستخبارات العالمية، ولوهلةٍ، كان يُظن، مع خروج هذا البار من الخدمة بفعل الحرب الأهلية، أنّ العملاء والجواسيس قد تشتتوا بعيداً، غير أنَّ تفجير 14 شباط 2005، فتح حفرة واسعة وعميقة مقابل البار، ساهم (صندوق الالتباس) في المحافظة عليها، إلى الوقت الذي تم فيه تفجير المرفأ، ليبدو لبنان كله كحفرة سوداء، موجوداتها ضائعة وتائهة، فيما (زبائن) بار السان جورج القدماء، يفرشون خرائطهم على وسع الفراغ الجاثم فوق المرفأ.

هل سيتمكن لبنان، من تفكيك صندوق الالتباس، وإعادة إغلاق بار السان جورج، وردم حفرة 14 شباط، وتعمير فراغ المرفأ؟

التساؤل خاطئ منهجياً، لافتقاده للعبارة المفتاحية الأولى: هل سيتمكن لبنان من إقصاء هذه الطبقة السياسية وسلالتها…….؟

أم سيبقى أسيرها، ومعها، تحت حكم صندوق الالتباس؟

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق