العالم الآن

كورونا، ضيف بيتنا الثقيل…!

كيف انتصر حاتم سلّوم في معركته ضد فيروس كورونا؟

انتصر حاتم سلّوم على فيروس كورونا في مرتين متتاليتين:

الأولى، في مواجهته المباشرة معه، حيث تمكّن من تنظيف جسمه منه، وطَردِهِ من بيته وحماية عائلته من خطره، والثانية، عندما قرر، بشجاعة وكبرياء، أن يدع قلمه يؤرخ لهذه المعركة، ويضع قصته في متناول الجميع: الأهل والأصدقاء والرأي العام.

حاتم سلّوم، طبيب في أحد مشافي باريس، كان على رأس عمله عندما اكتسح كورونا إيطاليا والشرق الفرنسي، آنذاك، كان لديه الخيار بأن يعتذر عن مواصلة العمل، خصوصاً أنه تعرّض لضغوط متواصلة من جهة أهله وعائلته، كي يترك العمل مبتعداً عن (  مكان الخطر )، غير أنه، إنسانياً وأخلاقياً والتزاماً بتعهداته المهنية، واصل عمله في المشفى الذي بأيام قليلة تحوّل إلى ( بؤرة للوباء )، بفعل العدد المتزايد للمرضى الذين يتم استقبالهم على مدار الساعة.

كانت أحداث تلك الأيام، بمثابة معركة شرسة… الطبيب حاتم كان متوضّعاً في أحد خطوط الدفاع الصحية، عندما أصيب بـ ( رصاص فيروس موجّه )، فأصبحت معركته بوضعية الالتحام الكامل، فأخذ يقاتل بـ ( السلاح الأبيض، واللحم الحي، وإرادة الانتصار )، خاض معركته مقاتلاً ببسالة، إلى أن قتل الفيروس وهزمه وانتصر عليه، وكسب في رصيده، هذه ( الملحمة الإنسانية ) الرائعة.

هي قصة مؤثرة، في غاية الإنسانية، قصة تقارب ذلك التساؤل الذي يواجهنا الآن:

كيف يمكن أن نستمر على هذا الكوكب بوجود هذا العدو غير المرئي؟

حاتم سلّوم، أنت بطل.

كورونا ضيف بيتنا الثقيل…!

الدنيا شتاءٌ يجلس مسترخياً على باريس، نحن في نهاية العام 2019، مطرٌ يطرق نوافذ البيت وسقفه، كنا قد أعددنا طاولة العشاء، «جوليان» ابني يستوي في مكانه، الآن تبدأ عطلة نه اية العام، لا أزال أذكر تلك الأمسية كثيراً، ثمة شريط أخباري عاجل يُبث على إحدى قنوات التلفزة الفرنسية يحدثنا عن وباء فيروسي قاتل في أقصى آسيا، بعيداً عنّا ربما، لا أزال أذكر تلك الغصّة التي لاحقتني طيلة العشاء وأنا أنظر إلى تلك المدينة هناك بشوارعها الطويلة المقفرة الخالية، وصور سكانها المتحصنين في منازلهم بذعر لا نهاية له…!

ثمة قلق غامض ألمَّ بي، لا يُفسَّر، نغَّص عليَّ تلك الوجبة الشهية التي أعدتّها «برناديت» زوجتي بإتقان وحبّ، ما أزال أذكر إلحاحها عليَّ بوجوب تناول الطعام، لا تزال تلك الغصّة عالقة في حلقي منذ ذلك المساء البارد.

ماذا لو قرّر هذا الفيروس الغريب السفرَ والتجوال…؟

ماذا لو جاء بلاد الغرب…؟

في الليل عندما استويت في سريري، أستيقظ الطبيبُ في داخلي، كنت متيقّناً أن ذلك الكائن المجهري، بطبيعته وصفاته، لن يكتفي بإقامته في الشرق، ولا بدَّ أن يقصدنا خلال عدة أسابيع…

في المشفى حيث أعمل، لا شيء ينذر بوقوع كارثة وشيكة، لا تغير في روتين العمل، لا إجراءات استباقية، الفيروس بعيد، ما أزال أسترجع أحاديثنا، زملائي وأنا، على طاولة الطعام في استراحة الظهيرة: الفيروس ووحشيته صنيعة الإعلام الذي يضخّم خطره ويخيفنا دون توقف، هو شبيه بفيروس «الإنفلونزا» ليس إلاّ، سهل العلاج، والوقاية سهلة حتماً. كنا نتبادل الضحكات الساخرة والغامضة في آن، عندما نستذكر «الحجر الصحي» في «ووهان»، الآسيويون غريبون فعلاً…!

لم يزدني هذا الهروب سوى خوفاً وقلقاً، الآن في نهاية الشهر الأول من العام 2020، كنت أسمع وأرى مع زملائي في المشفى الأخبار المقلقة التي تصل من «إيطاليا»، بدأنا نشم رائحة الكارثة القادمة، كورونا يطرق أبواب فرنسا.

منتصف آذار 2020، كان علينا زوجتي وأنا أن نذهب «لاقتلاع» جوليان من مدرسته، الآن جاء دورنا في «الحجر الصحي»، كورونا بدأ حملته الشرسة في فرنسا، الأخبار المقلقة تجيئنا من شمال باريس، ومن الشرق، امتلأت المستشفيات بمرضى أنهكهم الفيروس وخنقهم، بعضهم مات في غياب أي علاج ممكن، ساد الذعر، وخيّم الهلع، أيقنا الآن أن الوضع يُنذر بالكارثة.

كان علينا أن نبرر «لجوليان» قرار إيقاف مدرسته، كيف له أن يفهم أو يقبل فكرة أنه لن يرى زملاءه لأجل غير محدود، لم يفهم لماذا كانت معلّمته تبكي على باب المدرسة لحظة وداع «أطفالها»، يريد أن يرى هذا «الكورونا» ليخبرهُ أنه شرير، وأنه لا يحبّه، كان على الطبيب أبيه أن يشرح له معنى الفيروس ؟ كان على أبيه أن يخترع دواء شافياً يخلّصه من هذا الوحش الذي لا يراه!!

جوليان حبيبي، أنت لا تعلم كيف تغيرت حياة أبيك، كيف صار مدعواً أن يحارب هذا الفيروس المتخفي واللا مرئي، دون أن يمتلك ما يكفي لوقايتك من فتك هذا العدو/ الوحش؟ كيف صار أبوك طبيباً في علم الفيروسات، وكيف يمضي نهاره وأحياناً لياليه تحت هذا الوقاء، مُغطيّاً وجهه بالقناع حتى التعرّق والاختناق؟ كيف له أن يرافق مرضاه حتى طلوع الروح، وكيف يُعلِم أُسَرَ المتوفين بذلك الخبر الأسود؟ كيف يخترع الكلمات ويلطّفها ليغطي عجزاً لا ناقة له فيه ولا جمل؟

أبوك يشعر بالعجز يا حبيبي.

آخر نيسان 2020 بعد شهر ونصف من تعب وجهد وركض وكرّ وفرّ ورقابة ذاتية، أذكر ذلك اليوم جيداً، الدنيا ربيع كئيب لا نكهة له ولا لون ولا رائحة، عدت عصراً إلى المنزل، كنت شاحباً هدّني التعب، صعدت إلى الطابق العلوي، تمددت بتثاقل على حافة السرير، هنيهات قليلة مضت لأدرك أن «حجري الصحي» ابتدأ للتو، مع هجمة قشعريرة شديدة طويلة خلت أنها لن تنتهي، بعد ساعتين من انخطاف الروح طلبت من زوجتي ميزان الحرارة ليعلن 40 درجة سترجعني بالقوة إلى فراشي…

الآن، كورنا المفترس ضيف بيتنا الثقيل! حلَّ بي مع أسئلته الشديدة الصعوبة والألم؟

 كيف أحمي أسرتي؟

كيف أخبر عائلتي وجميع إخوتي؟ أصدقائي…؟

الطابق العلوي يصبح ملكي، وسريري مملكتي.

جوليان لن أراه إلاّ بعد انتهاء المعركة وانتصاري، وزوجتي من الخط الخلفي ، تمدني بالطعام والشراب من بعيد، لتبتكر دورة حياة جديدة في بيتنا، همّنا الأول كان طفلنا الوحيد وحمايته جسدياً ونفسياً..

بعد أيام من الصداع الشديد، والتعب المنهك، ووجع المفاصل والعضلات … نوبات السعال وضيق التنفس، لليلتين متتاليتين خلتُ أنني صاعد درب السماء مختنقاً، محتجّاً ربما لكنني عاجز…

مابين نوبتي سعال، وإسهالات شديدة، كانت «برناديت» تخبرني هاتفياً، من الطابق السفلي، عن حزن جوليان وكآبته وبكائه، كان لا يفهم كيف أن أباه موجود على بعد أمتار ولكنه لن يضمه لأسبوعين أثنين ولن يقبله…؟

مابين ليلة منهكة، ونهار مضنٍ، كان إخوتي جميعهم بقربي من دعاء ومزاح وضحك وبكاء وخوف وأمل وتشجيع وذعر أحياناً.

لم تنقطع اتصالات أبي وأمي وهما يتلوان عليّ سوّرَ دعائهما وكنت ألمح دموعهما دائماً.

«برناديت» زوجتي، تصمد، رغم عناء جسدي ونفسي هائلين، مسلّحة بالحب، بالأمل، بالصلاة التي لم تنقطع يوماً..

في يومي العاشر، في هيئة الساحر، اختفى كل شيء! إلاّ تعبي الشديد ونوبات السعال الخانق، الآن، عليَّ الالتزام بخمسة أيام إضافية من هذا الحجر الصحي، لياليَّ الطويلة زينّها ديوان شعري لأبي نشره مؤخراً، وديوان شعر لأبي نوّاس، ومنشورات طبيّة طويلة…

في المشفى، أخبرني زملائي عن احتفالهم بشفائي بعد أن فقدوا كل أملٍ برؤيتي مجدداً.

اليوم الخامس عشر من الحجر الصحي، عدا عن السعال الخانق كان كل شيء على ما يرام، الآن، بعد انقشاع غبار المعركة يمكنني أن أترك طابقي العلويّ، خطرّ لي أن أرتدي بذلة وربطة عنق ربّما، خطر لي أن أرقص وأغني، وأن أحتفل بكل بساطة بهذه الحياة الجميلة.

في أسفل الدرح، كنا ثلاثاً نبكي، لحظاتُ عناقٍ طويلة، أنا في المنتصف، جوليان على يميني، برناديت على يساري، كلٌّ منهما يطبع قبلته على خدي.

 الآن أقول للحياة: خذي صورة لنا، نحنا سعداء، أنا حيّ، شعور الانتصار يؤكد أن الحياة جميلة… جميلة حتماً.

مناوشات ما بعد المعركة

لا أزال أعاني من السعال، من وقت لآخر، وبعض رواسب الفيروس في الرئتين، لكني عدت للعمل في المشفى الذي أغلق أبوابه في وجه الكورونا. جوليان عاد ثلاثة أيام فقط إلى مدرسته قبل عطلة الصيف وما زال لا يفهم لمَ لم يراني خمسة عشر يوماً؟

برناديت عادت إلى عادتها القديمة في الضحك والمرح والحب الصادق والصلاة…

د.حاتم سلّوم

طبيب وأديب سوري مقيم في باريس

‫2 تعليقات

  1. سلامة قلبك و روحك و الف الحمد لله على سلامتك وسلامة عيلتك وانشاء الله ايامك الجاي كلها صحة و سعادة وهناء وراحة بال
    كلنا نسلم عليك ونتمنى لك الاجمل والافضل في الحياة
    الله يحميك ويكون معك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق