العالم الآن

من الليندي إلى بوريك

التشيلي أمام دروس التاريخ

انتهت الانتخابات في التشيلي وفاز مرشح اليسار غابريال بوريك، ما يعيد التذكير بسلفادور الليندي، ويضع أمام بوريك دروساً إضافية من العراق وفنزويلا.

دروس تشيلي الليندي وعراق قاسم وفنزويلا تشافيز تؤكد: من يتسلح بالشعب الكادح لن يُسقطه الغرب الإمبريالي بانقلاب عسكري.
الدرس الأول: سقط حكم عبد الكريم قاسم، ذو التوجهات اليسارية الشعبوية في العراق لأسباب عديدة، ولعل أهمها هو أنه رفض تسليح الشعب، وجرَّد مليشيات المقاومة الشعبية التي شكلها الشيوعيون من سلاحها وحلَّها، ورفض تسليح حتى المجموعات الشعبية التي هرعت من المناطق القريبة على مقره في وزارة الدفاع في باب المعظم للدفاع عنه يوم الانقلاب ضده، ولهذا كله أُسقط بسهولة واقتيد أسيراً مغدوراً وقُتل هو وعدد من رفاقه رمياً بالرصاص في غرفة العازفين الموسيقيين في دار الإذاعة العراقية ببغداد من قبل مليشيات وعساكر اليمين القومي في  شباط 1963.
الدرس الثاني: الرئيس الاشتراكي التشيلي سلفادور الليندي أقدم هو الآخر بعد فوزه في انتخابات 1970 وتنصيبه رئيساً، على حلِّ مليشيات الدفاع الشعبية فواجه طيران الانقلابيين عملاء المخابرات الأميركية ودباباتهم وحيداً فأجهزوا عليه وعلى تجربته الاشتراكية!

عن هذه التجربة كتب الروائي الكولومبي الشهير غارسيا ماركيز الآتي: (ففوز حزب الوحدة الشعبية – بزعامة الليندي – لم يحدث ذعراً مجتمعياً كما كان توقع البنتاغون الأميركي، إنما العكس هو الصحيح، إذ حازت سياسات الحكومة الجديدة ولا سيما في مجالي العلاقات الخارجية والاقتصاد رضى شعبياً كبيراً. فخلال العام الأول وحده تمّ تأميم ست وأربعين مصنعاً وأكثر من نصف القطاع المصرفي، كما تمت إعادة أكثر من 24 مليون هكتار إلى الفلاحين، وتمت السيطرة على التضخم وحلت مشكلة البطالة وزاد دخل الفرد بنسبة 40% تقريباً … ونجحت في اتخاذ إجراء قانوني حاسم مكنها من إعادة السيطرة على كل مناجم النحاس التي كانت تستغلها فروع الشركتين الأميركيتين “أناكوندا” و”كنيكوط” دونما الاضطرار إلى منحهما أية تعويضات انطلاقاً من حقيقة تمكن الشركتين، على مدى خمسة عشر عاماً، من تحقيق أرباح خيالية).
كان الليندي يكره العنف بعمق، ولكنه كان ثورياً عنيداً أيضاً – كما كتب ماركيز – فقاتل بشراسة ببندقية رشاشة أهداها له كاسترو. وكان يعلم أن الانقلاب ضده سيكون دموياً فقد سبق له وأن توقع المذبحة القادمة قال: “وأهم من يظن أن انقلاباً عسكرياً في تشيلي بوسعه أن يكون على غرار ما نراه في بقية دول أميركا اللاتينية، أي أن يقتصر على تغيير الحرس في قصر الرئاسة، وذلك لأنه إذا خرج الجيش على الشرعية في بلد كهذه فسوف تنهمر حتماً حمامات الدماء على غرار ما حصل في أندونيسيا”! وفعلا فقد قُتل في تشيلي “حوالى عشرين ألف شخص، وتم تعذيب ثلاثة آلاف مسجون سياسي بصور وحشية، وتم فصل 25 ألف طالب، وتسريح أكثر من مئتي ألف عامل”.
الدرس الثالث: في فنزويلا تشافيز تأسست مليشيات شعبية في الأحياء العشوائية “الباريوزا”، فتضايق الرئيس منها، وقال له مستشاروه أنها ستستفز اليمين، وكاد يأمر بمنعها وحلِّها ولكن الانقلاب الذي قام به العسكر الموالي لواشنطن قلب كل الحسابات: فقد اعتُقِلَ الرئيس وسيطر الانقلابيون على الحكم، وهنا حدث ما لم يكن في الحسبان فقد (رد أهالي الباريوز وانتفضوا دفاعاً عن تشافيز الذي انتخبوه، ونزل أبطال حرب الشوارع واصطدموا مع قوى الأمن وظهر السلاح الشعبي، ووضعت خطط لاحتلال ومحاصرة مواقع حكومية. هذه الهبة الشعبية شبه المسلحة قسمت المؤسسة العسكرية. وأقنعتها بأن البلاد متجهة صوب حرب أهلية إن لم يعد تشافيز، وهكذا عاد! ويعتقد أن تشافيز أدرك خطأه بأن ألليندي سقط بعد أن حل الميليشيات الشعبية، وأن هذه القوى حماية للحركة البوليفارية، أكثر من حلقات المثقفين ومظاهرات الشباب السلمية/ حسن الخلف – رابط لمقالة في نهاية المنشور).
والسؤال الحارق والأهم: هل سيستخلص الفائز الاشتراكي التشيلي الجديد العبرة من دروس التاريخ البعيد والقريب ويختط طريقاً ثورياً حقيقياً فيتسلح بالشعب الكادح دفاعاً عن انتصاره الانتخابي ويطبق مشروعه الاشتراكي ويعمقه أم أنه سيكرر أخطاء الماضي؟
من هو بوريك؟ غابريال بوريك يصف نفسه باليساري المستقل، وكان نائباً في البرلمان عن حزب يسمى ” التقارب الاجتماعي”، كما كان من قادة الاحتجاجات والتظاهرات والانتفاضة الشعبية في 2019، وهو من أب كرواتي مهاجر وأم اسبانية مهاجرة، ولكن الإعلام الغربي يسمي تحالفه “أقصى اليسار” لمشاركة الحزب الشيوعي التشيلي ذي الثقل الجماهيري الكبير فيه ومنظمات يسارية مختلفة وشخصيات يسارية مستقلة ونقابات فيه، وأحياناً يسمونه “من اليسار الجذري”، وهو كان متردداً في ترؤس وقيادة التحالف اليساري ثم استجاب لرغبة رفاقه في الانتخابات الداخلية للتحالف “جبهة التحالف الواسعة” كما يمكن ترجمة اسمها، حيث فاز فيها على مرشح الحزب الشيوعي دانيال جادو بسبب وسطيته – وسطية بوريك -ضمن اليسار، وقبل الشيوعيون النتيجة وترشح بوريك وفاز في الانتخابات.

————————————————
1-رابط يحيل إلى ترجمة مقالة “لماذا قتلوا الليندي (احداث 11 أيلول 1973)… بقلم غابرييل غارسيا ماركيز”:
https://manateq.net
2-رابط مقالة ” «ثورة الباريوز» في فنزويلا” بقلم حسن الخلف:
https://al-akhbar.com
3-رابط تقرير إخباري/ تشيلي: مرشح اليسار الشاب بوريك يحقق فوزاً كبيراً على منافسه اليميني المتطرف ويصبح رئيساً جديداً للبلاد… أعلنت اللجنة الانتخابية في تشيلي فوز مرشح أقصى اليسار غابريال بوريك البالغ من العمر 35 عاماً فقط في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية على مرشح اليمين المتطرف خوسيه أنطونيو كاست بعد أن حصد 56% من الأصوات مقابل 44% لمنافسه:
https://www.france24.com

علاء اللامي

باحث وكاتب من العراق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق