العالم الآنمسار جلجامش

نصُّ المزّة

نقد السيرة

[في خريف العام 2000 قررت الدولة إغلاق سجن المزّة، الذي يقع غرب دمشق، وتحويل مبناه إلى معهد للعلوم التاريخيّة. كتبتُ هذا النصّ تعقيباً على هذا القرار ونشرته في جريدة الحياة، يوم الجمعة في الأول من كانون أول عام 2000، العدد 13778]

ينطوي قرار الدولة بإغلاق سجن المزّة الذائع الصيت وتحويله إلى معهد للعلوم التاريخية، على عنوان يوتوبي لم يسبق أن تمّ إنجازه على هذا النحو الانقلابي. والصفة الانقلابية لا تستمد معناها من قرار الإغلاق، بل من قرار الانقلاب على التسمية القديمة “سجن” واستبدالها باسم جديد هو معهد العلوم التاريخية. وفي هذا التغيير الوظيفي تُخضع الدولة اليوتوبيا إلى مقتضيات برنامجها الإصلاحي، لكن في الحقل الرمزي له.

من المؤكّد أنّ الدولة لم تضق أراضيها إلى هذا الحد الذي يجبرها على إنهاء خدمات سجن عريق وتحويله إلى مكان علمي أكاديمي، لكنها إذ تتعمد ذلك فإنّها تستهدف إسقاط السجن وظائفياً في الطريق إلى إسقاطه من الذاكرة المجتمعية باعتباره رمزاً للسياسة المستحيلة، أو لاستحالة السياسة، بكونه مزاراً للسياسيين والثوريين الذين يتناوبون على الإقامة فيه كشرط لازم لاكتسابهم سيرة المناضل وشارته ووشمه. ويكتمل اعتباره رمزاً لاستحالة السياسة في حضوره الراسخ في الذاكرة كرادعٍ للسياسة، وفي ذلك أيضاً تشويق أسطوري للحج إليه للمندفع تجاه حقل السياسة، حتى وإن تصادف ولم يقدّر له القيام بذلك!

هكذا لم يعد سجن المزّة مكاناً، بل نصّاً.

وفي سيرورة كونه نصّاً، يوسّع السجن حدوده، فلا يبقى مُحاصراً بأسوار مرتفعة وأسلاك شائكة، ولا يبقى موصوفاً معمارياً بكونه مؤلفاً من طبقتين وستة مهاجع، ولا جغرافياً بكونه واقعاً على هضبة في غرب دمشق، ولا تاريخياً وإن يتم إعادة نسبه إلى أكثر من 800 سنة خلفاً. بل إنّه يتجاوز هذا التوصيف التحديدي مع استحالته إلى نصّ مفتوح مطبوع في الذاكرة الماضية والحاضرة، وجاهزاً ليُقرأ في الذاكرة القادمة. على أنّه وفي حقبة الانقلابات كان نصّاً مخاتلاً لا يقدم نفسه كما هو، كرمزٍ مضاد لذاكرة الحرية، وكنصّ وحشي يفترس رومانسيات التغيير التي كان يتطهّر بها خيال الشباب القادم من الطفولة نحو صياغة الوطن، بل إنّه كان نصّاً مخاتلاً إغوائياً على نحو أخضع فيه شهوات العسكر لحاجته بأن يعجّ بالرجال دائماً، الذين يدفنون شبابهم وأحلامهم في عفنته، ولكنّ بعضهم يؤسس لأحلام جديدة بأن يعمل على إرسال من أرسله إلى هذه الزنازين. فالإغواء هنا مُشرعة أبوابه أمام الجميع، وليس وفقاً على سلالة سياسية بعينها، فالجالس قبالتك في حكومة أو مجلس ثوري أو عسكري، يأخذ الإغواء بتلابيبه إذ يفترض فيك، أنت زميله أو رفيقه أو رئيسه “لم لا؟” بأنّك تتمتع بمواصفات تؤهلك للنزول في “المزّة” أو أنّ هذه المواصفات قيد التشكل، إذ يلمح عندك بعض استقلال في الرأي، أو مغايرة لما هو سائد.

وتتأكد “نصيّة” السجن عندما تُدفع إلى أوكاره متبوعاً بأدب تلفيقي لا يمكن التكهّن بنهايته. إنّه سيل هائج من الكلمات تحول دون خروجك من نصّ السجن المحروس بأبواب “المؤامرات”. وإذ تبقى في الداخل فإنّ الوطن يصبح عصيّاً على “الخارج” الأجنبي الذي لا يجيد إلاّ التآمر على مصير وطنك! وباحتوائه للمتآمرين يكتسب السجن ميزة إضافية بتنصّيبه حارساً أسطورياً للوطن، رادعاً جيوش مختلف الجنسيات التي يستضيف في مهاجعه الرحبة ممثلين لها.

وإذ يكون عصيّاً عليك إحصاء كلمات هذا “النصّ” الطويل المُشكّل في بعض من فصوله من أسماء رجال حُملوا على الأكتاف “لبطولاتهم” ثم ما لبثوا أن تمّ إسقاطهم من كتاب الاستقلال ودفاتره اللاحقة، ليتلقفهم نصّ “المزّة” معيداً كتابة أسمائهم في صراخ المتظاهرين ولهجتهم المذعورة من “مؤامرة” ما، والهائجة للفتك بهم بلغة بطّاشة وطائشة… وإذ يكون هذا الإحصاء عصيّاً عليك، فإنّ أسماء مثل شكري القوتلي وناظم القدسي وخالد العظم، ربما تكون مرشحة للاستمرار على جدران المعهد التاريخي العتيد مُجيّرة له من سلفه العريق.

لكنّ رؤساء الجمهورية لم يكونوا سوى ضيوف شرف على سكان السجن، الذين ما برحوا فيه بأصواتهم وألعابهم وأحلامهم بالخروج، والذين سينغّص خيالهم استرخاء طلاب التاريخ الذين يتهيؤون لتأسيس نصّ آخر مغاير وانقلابي على نصّ السجن المهدد بإحالته إلى رفوف التراث المصفرّة من الإهمال والنسيان.

على أنّ الازدهار العظيم للسجن، لم يكن في لحظات استقباله لرؤساء الجمهورية وحسب، وإن كان يشتاق دائماً لإقامة مثل هذا الاستقبال. بل ثمّة لحظات أخرى شكّلت امتحانه الكبير لقدرته على ابتلاع حشد هائل من الرجال والنساء لم تفارقهم الحيرة من جهلهم لأسباب هذه المصادرة ودواعيها!!

 وإذا لم يُقدّر لأنطون سعادة، مثلاً، الإقامة في “المزّة” بسبب حجوزاته الدائمة في سجون بيروت، فإنّ زوجته جولييت المير سعادة عوّضت عن ذلك بقضائها لسبع سنوات وتزيد محشورة مع مرضها العضال إلى أن أصدر مجلس قيادة الثورة بعد حركة 8 آذار 1963، قراراً بالإفراج عنها بعد أن قدم الدكتور سامي الجندي عضو قيادة الثورة آنذاك تقريراً إنسانيّاً يُبكي الحجارة، التي لم تبكِ، ولكنها دهشت كيف يخون بعثي “أدب المؤامرات” وينتصر لأدبِ التاريخ، الذي جاهد عصام المحايري لصياغة بعض من فصوله في مرافعته الشهيرة على أثر مقتل العقيد عدنان المالكي 1955، حيث وضع هذه المرافعة وهو ينعم بالأجواء “الساحرة” لزنزانة “أبو ريحة” المختّصة أصلاً بالزبائن المرشحين للخروج.. إلى المشنقة.

ولكن، أيّ ظلم نلحقه بهذا “السجن” فلا نذكر إلاّ سكانه من أهل السياسة ودهاليزها. فما بالك، مثلاً بخالدة سعيد وأدونيس “كلمتين” دخلتا عنوة في نصّ “المزة” ليعودا لاحقاً إلى نصّهما الذي ما زال حاضناً لهما، ولعلّ أدونيس الذي قال مؤخراً إنَّ دمشق هي مدينة النهايات بينما بيروت هي مدينة البدايات، لم يكن واصفاً سوى لمشهده الأخير في دمشق عام 1955، عندما دخل إلى “المزة” مع حشود القوميين الاجتماعيين دون أن ينسى قلمه الأخضر الذي خربش بريشته وكتب، وربما ترجم عن الفرنسية نصوصاً شعرية، والأهم أنه انقلب على نصّ “المزة” بقصائد أسماها أولى لاحقاً، ولم تكن كذلك، وعندما اكتملت سيرته السجنية هذه، خرج طائراً إلى بيروت ملازماً ليوسف الخال في مشروعه…. كذا.

عصام الحايري في باحة السجن
عصام المحايري في باحة السجن

هكذا تكون دمشق مدينة للنهايات، وربما من أجل ذلك يعود أدونيس شيخاً، ولكن ليس إلى دمشق، بل إلى قصابين حيث كانت بدايته، بل ولادته.

وإذا كان أدونيس قد غادر “المزّة” بعد أن أُحرقت إضبارته الأمنية، فإن محمود نعمة غافل أسوار السجن وشرائطه الشائكة والمكهربة وحرّاسه وجواسيسه وقائدهم ليصل بيروت، ثم المغترب الأميركي، ثم ليعود ثانية ليجد “رسالة” سجن المزّة بتوقيع عبد الحميد السرّاج قنبلة انتقامية من هذا التجاسر العظيم على سيد الرعب وأسطورة الردع. وفي مرة لاحقة.. لم يهرب السرّاج، بل تم تهريبه، فكان الشخص الوحيد الذي تواطأ السجن معه، بأسواره وأسلاكه ورجاله، فرحل إلى القاهرة، ولكن ليسجن في دائرة الخوف والوحدة.

وأخيراً، هل شاخ “المزّة” كي يتم تسليمه للتاريخ وجرجرته على مقاعد العلم؟ أم أنّ أحداً لم يعد يأتي إليه أبداً بعد الهجرة الكبيرة لسكانه؟ ولكن، لمن هو؟ ومن يملكه؟ وهل تم تطويبه رسمياً؟ أم هو للدولة التي تنكّل به هازئة من تاريخه؟

أم هو ملك تلك الأصوات الهاربة من تحت سياط الجلادين، التي لا تجد مكاناً خارج أسوراه؟

أيضاً وأيضاً.. هل هجره سكانه فعلاً؟ وهل استطاعوا ذلك؟! وكيف أخرجوا معهم أحلامهم الأولى وتمتماتهم السرّية.. وشهوة الحياة؟!

ذلكم لم يكن سجناً، كان وطناً للسجناء.

وهو اليوم: “نصٌّ” مفتوحٌ في تاريخنا المعاصر.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق