فجأةً، وعلى نحوٍ صاعق، غافل فيروس كورونا كوكب الأرض ومَنْ عليه، وثار كبركانٍ هائجٍ ناثراً حممه في كل مكان، ونافثاً ناره ودخانه في أية رئة ضعيفة مختبئة في صدر إنسان، لا يزال للأمس القريب، يواظب على فعل الحياة.
ثار كورونا كـ«مخلوق غير مرئي» زارعاً الهلع في النفس البشرية التي بدت ضائعة تائهة خلف سؤال ما إذا كان هذا «اللا مرئي» قابعاً في أحشائها، أو إلى جانبها، أو إلى جوارها… أو في أيّ جسدٍ إنساني قريب من جسدٍ إنساني آخر.؟
ثار كورونا فانكفأ الإنسان إلى منزله، الذي تحوّل بلمحة خاطفة إلى «جحر»، لا وظيفة له سوى عزل هذا الكائن الهارب الخائف وحمايته من نوعه وجنسه ونفسه!! دبَّ كورونا على الأرض كمخلوق أسطوري لا يقاوم بالمواجهة، بل بالتراجع من أمامه وإخلاء دربه والاختباء بعيداً عن مستشعراته، فلم يكن أمام الإنسان إلّا التراجع نحو بيته /ملجئه، تراجع هو في الحقيقة إخلاء شبه كلّي لـ«مكان حياته».
تراجع الإنسان، غريزياً أو بقوة الإجراءات الرسمية للدولة، والتزم بيته، تاركاً مساحات العمل، المعامل والورش والحقول، المدارس والمعاهد والجامعات والمعابد والملاعب وقصور الثقافة وأماكنها الحميمة ومنصّات الفنون والمسارح والشواطئ… و… تركها كلّها لتبدو كأوابد مسجّاة، مهزومة، باردة، جامدة، مستسلمة تنتظر أو تأمل أن تستأنف حياتها، حالما يهدأ غضب هذا المخلوق الأسطوري «اللا مرئي» ويعود أدراجه إلى مخبئه «الملغّز» بروايات شتى عن منشئه وأصوله وولادته الطبيعية أو المخبرية ونموّه ورعايته وإطلاقه واستمراره، أو انسحابه أو سحبه ووضع حدٍّ لجنونه وهيجانه بدواءٍ ناجع أو لقاح حاسم؟
يبدو الإنسان من جحره / منزله، وهو ينظر مرعوباً من خلال النافذة، وكأنه يستعد لـ«اليوم التالي» الذي سيأتي بعد تدمير هذا العالم.. لولا أنَّ شاشة صغيرة تبيح لأصابع يديه أن تلامس رموزها وتتلاعب بها لتفتح أمام عينيه ذلك العالم المسمّى «افتراضياً ــ Virtual» والذي يسبح سعيداً في الفضاء السبراني Cyberspace الهائل، والذي من خلال شبكاته العنكبوتية المعقّدة ــ الإنترنيت ــ يمارس الإنسان حياته ويعمل على إنتاج «وجود» مغاير لوجوده القديم.
شاشة صغيرة، ليس من المؤكد إن كانت النافذة التي تشكّل خلاصاً للإنسان من عزلته وحجره وخوفه وهلعه، أم أنها، ومن ورائها، الحاكم المطلق لمستقبل الإنسان وحياته وشكل وجوده وصولاً إلى إعادة إنتاجه فيزيائياً / بيولوجياً ومعنوياً على حد سواء؟!
هل دفع فيروس كورونا، وفق نسخته الداشرة الآن Covid-19، العالم نحو مجهول لا يبدو أن ملامح هيئته ستتضح في القريب العاجل؟
أم أنَّ هذا «المجهول» نفسه ليس سوى مرحلة «ما بعد الإنسانية ــ Posthumanism» المعدّة فلسفياً والتي يصار إلى صياغتها في مخابر الذكاء الاصطناعي ــ Artificial intelligence، هي من تدقّ أبواب العالم قبل أوانها؟
Stay Home: (احتجاز ــ اختبار ــ تمرين)
دفع كورونا، في أيامٍ قليلة، أكثر من ثلاثة مليارات إنسان للاختباء في بيوتهم، عملاً بوصفة «التباعد الاجتماعي ــ Social distancing» التي بدت ناجعة وفق تطبيقاتها الصينية المبكّرة في مدينة ووهان. ففي ذروة هجوم Covid-19 وإسقاطه لأماكن التجمعات واحدة بعد الأخرى، وفي ظلِّ غياب الأدوية واللقاحات ونقصان أجهزة التنفس في المشافي فضلاً عن الأقنعة.. في ظلِّ ذلك وغيره بدا خيار «البقاء في البيت» كإستراتيجية وحيدة تمكّن من تجنب جيوش الفيروس وقوته الهائجة. بمعنى ما، كان لا بدَّ من الانسحاب من «الواقع» الذي سقط تحت سيطرة الفيروس، والتمترس في البيت برفقة «شاشة صغيرة» تمكّن من الدخول في «الواقع الافتراضي ــ Virtual Reality» لأطول مدة متاحة.
إنَّ القطيعة الحاصلة الآن ما بين «الواقع» و«الواقع الافتراضي»، وعلى هذا النحو، لم تحصل ولا مرة، وها هي الآن تنجز بشكل يحيل «الافتراضي» إلى «المكان الأول» للإنسان، فيما «الواقع» ليس سوى المخزن الخلفي أو المستودع الذي نضع فيه حاجياتنا اللازمة والضرورية كي نواصل حياتنا من البيت في «الواقع الافتراضي».
على هذا النحو يكون Stay Home بمثابة تمرين مثالي لاكتساب اللياقات المستقبلية اللازمة كي نتمكن من التموضع في الحالة التي يصبح فيها «الواقع Reality» مساوياً تماماً، أو منطبقاً تماماً أو هو نفسه «الواقع الافتراضي ــ Virtual Reality» ما يؤكد أننا في الطريق الصحيح لـ«ما بعد الإنسانية».
وقائع يوم في البيت:
إشارة توضيحية:
[ــ تجري هذه الوقائع في دول العالم الأول، أو المسمّى أولاً، ومع الأخذ ببعض التعديلات، يمكن ملاحظة جريانها في مجتمعات الدول الأخرى حسب معايير تصنيفها..
ــ تتألف دورة الحياة، في هذا التمرين، من 14 يوماً، هي مدة الحجر الصحي المنزلي، يفترض أن تكون المؤنة بكل أنواعها، كافية خلالها بمعنى يجب أن تسود حالة «الاكتفاء الذاتي» خلال هذه المدة لتأمين حالة «التباعد الاجتماعي»].
دون أن تترك فراشك، وحالما تفتح عينيك صباحاً، تتناول هاتفك الذكي العجيب الذي لا يفارقك فينام قرب رأسك، تأخذه وتطرق بابه بلمسة من إصبعك لتفتح شاشته الصغيرة باب «عالمك الآخر» ــ إلى متى سيظل آخر؟ ــ يمكنك ببساطة ويسر أن تدخل منذ الصباح الباكر إلى «مجتمعك الافتراضي»: أهلٌ وأصدقاء ومعارف وزملاء عمل وأحياناً غرباء جدد وغيرهم، تتعامل معهم وفق أنساق ومجموعات وأفراد، جميعهم يتوضعون في جنبات «مملكة الفيسبوك»، تدخل معهم إلى هذه المملكة متفاعلاً حسب طبيعتك ومزاجك ووقتك وحاجتك، تلقي التحية وتتبادل الأمنيات، تشارك في المناسبات الخاصة أو تقاطعها، تعجب وتتعجب، تزعل وترضى، تفرح وتحزن.. تقاطع وتطرد من يزعجك وتدعو بالمقابل ضيوفاً.. تظل في جنبات مجتمعك إلى أن تملّ لسبب ما فتغادرها بيسر وسهولة، لتقرأ ملهوفاً تغريدات دونالد ترامب أو إيمانويل ماكرون أو تغريدة أي زعيم منطقة أو حزب أو حركة… عبر جنّة «تويتر» المزدحمة بمختلف «الطيور» المغرّدة قبيحها وجميلها؟ يمكنك إن أردت أن تغرّد أيضاً، لم لا؟ قبل أن تسرع مرة أخرى نحو «الفيسبوك»، أو ربما الانستغرام… أو غيرها. تقوم بذلك كله، دون أن ترفع رأسك عن الوسادة، ودون أن تحرّك ساكناً، خوفاً من أن تستيقظ زوجتك التي تقاسمك الفراش، والتي تدير ظهرها إليك..
.. لكن، لا تخف، تحرك إن أردت، بل يمكنك أن تسعل أيضاً، فهي مستيقظة ــ يا للبهجة ــ ومنفردة مثلك بـ«مجتمعها الافتراضي» من شاشتها الصغيرة في هاتفها العجيب. يمكنك أن تتأكد من ذلك من منصة الفيسبوك!!
لا بدّ لك، بعد تردّد وتأجيل ومماطلة، من ترك الفراش والاتجاه نحو الحمام، في حركة تشي بعودتك إلى عالمك الأول «الواقع»، ولكن «العجيب» سيرافقك وستقضي وقتاً أطول من المعتاد داخل الحمام، تواصل عبر شاشتك الصغيرة التنقل بين مواقع الأخبار التي تزورها يومياً، أو تستمع إلى إحدى المحطات أو البرامج أو الرسائل الصوتية، بل، ربما ستمارس ترفيهاً مبكراً بالاستماع إلى الأغاني المرافقة لتمارين رياضية تمارسها وفق تعليمات تتلقاها عبر برامج خاصة على «اليوتيوب»!
إنك تعمل عن بعد؟ بلى، وها إنك تباشر عملك من وراء شاشة جهاز الكومبيوتر، وأنت ترتشف القهوة مع قطعة حلوى.. لست وحدك في المنزل هكذا، زوجتك أيضاً وراء جهاز الكومبيوتر، واحد من ولديك يتلقى التعليم الجامعي عن بعد، والآخر يتلقى التعليم الثانوي.. كلّ وراء جهازه.
ما بين الحادية عشرة والنصف والثانية عشرة والنصف، ستأخذون جميعكم وجبة خفيفة، ستكون فرصتكم الأولى كعائلة للالتقاء وتبادل بعض الأخبار والطرائف.. ستتفقون أكثر من مرة على ترك هواتفكم الشخصية مغلقة، وستخرقون الاتفاق بالتناوب ودائماً بحجج دامغة!!
لم يعد مهماً ذلك الصندوق الصغير المثبّت على جدار المنزل الخارجي، فأنت تدفع فواتيرك، وتتعامل مع المصارف، ومصلحة الدخل والضرائب، والمؤسسات التعليمية والاجتماعية ومختلف الوزارات الحكومية، بواسطة الإنترنيت. ستقوم بذلك خلال النهار أكثر من مرة.
إن احتجت إلى مادة تموينية تم استهلاكها، ستطلبها على جناح السرعة بواسطة «تطبيق Application» خاص موجود في جهازك الرائع، ستفتح باب بيتك هذه المرة، بعد ساعة ربما أكثر، لالتقاط المادة التي تم وضعها أمام الباب. لا يهمّك من وضعها رجل بشري أم آلي؟
تشعر ببعض التوعك والانزعاج، لا بأس، ستتصل فوراً بعيادتك العائلية، سيكلمك الطبيب بعد حين هاتفياً، ستصف له الأعراض الملازمة لك، إن استدعى الأمر فحصاً طبياً متقدماً ستفتح آلة التصوير.. سيراك الطبيب ويعاينك ويوصي لك على الدواء مباشرة، سيضعه «الناقل» أمام بيتك بعد بعض الوقت.
في بعض محطات الاستراحة من العمل والدراسة، وفي وقت واحد، ربما، ستكون العائلة على تواصل «صوت وصورة» مع الأهل أو الأقارب أو الأصدقاء.. أنتم اجتماعيون جداً!
أثناء ذلك ستمارسون رياضة المشي بين غرف المنزل، ستتبادلون الابتسامات والإيماءات والإشارات. أنت بالذات «ربّ المنزل» يمكنك أن تكون مرتاحاً لجهة واجباتك تجاه أولادك.. فألعاب الفيديو وتطبيقاتها لا تترك للفراغ… فراغاً أبداً.
مع بعض المجهود الذي تبذله زوجتك عادة، ستجلسون جميعاً بعد وجبة الغداء / العشاء، وراء شاشة التلفزيون لحضور فيلم من مختارات Netflix ولكن أجهزتكم الذكية الصغيرة لن تفارقكم، أصوات الرسائل المتقطعة التي تستقبلها ستزعج فرجتكم بعض الأحيان.
خلال النهار، وفي مختلف اللحظات الخاطفة والاستراحات، ستتابعون أخبار الكورونا وعدد ضحاياه اليومية، والجديد بصدد الأدوية المقترحة لعلاجه، وموعد الوصول إلى لقاح ناجع ونهائي له، والتصريحات السياسية المرافقة لتطورات هجومه الكاسح… ستتجاهلون حتماً أخبار الطقس وحالة الطرقات والمواعيد الملغاة لرحلات الطيران، فالطقس سيظل حالة جامدة داخل البيت، الحرارة ثابتة 20 درجة مئوية ليلاً ونهاراً. المناخ مخبري بامتياز.؟
لا بدّ أنكم ستأوون إلى الفراش بأوقات مختلفة، وإن كنت وزوجتك ستدخلان سوية إلى غرفتكما، إلّا أن الشاشة الصغيرة ستحكم توضعكما في الفراش: ظهراً إلى ظهر دائماً. فالشاشة مفتوحة دائماً للدخول في «عالم آخر» وإن أغلقت عينيك تعباً، لتنام على فراش من «العالم القديم»؟.
ما بعد الإنسانية
مدخل منهجي
بداية، لا بدَّ من ملاحظة التداخل الحاصل بين مصطلحات تقع منهجياً في حقل «ما بعد الإنسانية»، حيث مصطلح Transhumanism الذي تم تداوله على نحوٍ متزايد من قبل العديد من المفكّرين ابتداءً من أوائل تسعينيات القرن العشرين من مثل Max More الفيلسوف الأنكلو ــ أميركي، يشير إلى ذلك الاتجاه الباحث عن تحسين الحياة البشرية عبر تحسين وضع الكائن البشري نفسه، باستخدام آليات التطور التقني، ما يؤدي إلى زيادة القدرات العقلية والفيزيائية للإنسان.
في المجال نفسه، اعتمد الفيلسوف الألماني المعاصر Peter Sloterdijk في العام 1999، مصطلح Posthumanism الذي من خلاله يمكن التعبير عن القطيعة التامة فيما بين المرحلة الإنسانية التي نحن فيها وتلك القادمة التي سيقيم فيها «كائن» آخر مختلف بقدراته البيولوجية والعقلية. في حين أن المصطلح الأول يترك التباساً حول هذه الحالة باعتباره قد يشير إلى ما يمكن تسميته بـ«عبور الإنسانية» أو الأنسنة.؟
بهذا المعنى يشكّل «العبور» المقدمة للوصول إلى «القطيعة» التي يعبّر عنها تماماً مصطلح Singularity، والذي يعود في أصله إلى العالم الأميركي من أصل مجري John von Neumam (1903 ــ 1957) غير أن العالم والمفكر الرؤيوي الأميركي المعاصر Ray Kurzweil استخدمه على نحو موسّع واعتمده عنواناً لأحد كتبه في العام 2005، The Singularity is Near ــ التفرّدية قريبة.
يقرر كرزويل، دون أي تردد أو شك، أنَّ العام 2029 سيشكل اللحظة التي ابتداءً منها سيصار إلى تدعيم الإنسان برقاقات تكنولوجية إضافة إلى «قطع غيار» أخرى تزيد من قدراته ومقاومته للشيخوخة والمرض، فيما سيكون العام 2045 بداية الزمن الذي لا يمكن فيه لأي إنسان الاستمرار دون الدعم التكنولوجي، وعلى ذلك تحل اللحظة التي سيبدأ فيها عصر «التفرّد التكنولوجي».
يساعد المخطط الزمني الذي وضعه كرزويل في تفكيك الالتباس الحاصل ما بين المصطلحين الأولين، حيث يمكن أن يشير Transhumanism إلى مرحلة العبور ما بين 2029 و2045 التي تأخذ هنا معنى «الانتقال المتدرج» باتجاه الوصول إلى القطيعة التامة ابتداء من 2045 التي يعبّر عنها مصطلح Posthumanism.
من جهتنا، سنستخدم مصطلح «ما بعد الإنسانية» للإشارة إلى تلك الحركة التكنو ــ فلسفية التي تستهدف تجاوز الحدود الطبيعية التي تحكم الإنسان، بتجاوز
قدراته البيولوجية والعقلية، بواسطة التكنولوجيا المتقدمة، وخصوصاً في حقل الذكاء الاصطناعي، وإيجاد المبررات الفلسفية الداعمة لهذا التجاوز وتشريعه عقلياً وأخلاقياً والتأهيل المسبق لقبوله عبر مختلف الوسائط الفنية والثقافية والتربوية.
بهذا المعنى تندرج المصطلحات السابقة كلها في إطار المعنى العام الذي نعتمده لهذا التوليف التكنو ــ فلسفي الذي يشكّل حركة «ما بعد الإنسانية».
التكنولوجيا ــ الفلسفة:
يطرح الفيلم السينمائي القصير The Last Generation To Die (2015)، ذلك التساؤل المصيري فيما إذا كان الإنسان سيتمكن من البقاء في هذا العالم «القديم الإنساني» أم سيعبره نحو عالم «ما بعد الإنسانية»، الذي في النهاية سيكون العالم الوحيد الذي سيقيم فيه «الكائن» ما بعد إنساني؟.
لا تتأتى الإشارة هنا إلى هذا الشريط السينمائي، لتقدير فرادته أو خصوصيته من بين عشرات الأفلام التي تم إنتاجها منذ أكثر من نصف قرن وفي هذا الحقل نفسه، في تدرج متساوق مع التطورات التكنولوجية وأبحاث التقانة الحيوية أو الهندسة الوراثية وغيرها، بل الإشارة هنا تعود لكون ماكس مور أحد أهم فلاسفة ما بعد الإنسانية كان واحداً من معدّي هذا الفيلم، ما يعني أنه يقع في حقل الفلسفة المتوالفة مع خط التطورات التكنولوجية بكل أبعادها.
ومع تجنب الاستغراق في تقصّي الجذور الفلسفية لحركة ما بعد الإنسانية، التي يشكّل ماكس مور مع FIM 2030 «الاسم الأصلي: Fereidoum M. Esfondiary، غيّر اسمه في منتصف سبعينيات القرن العشرين» مع سولوتان ستيفن… فلاسفة روّاد لها، يأتي تأسيس الجمعية العالمية لما بعد الإنسانية أواخر القرن الماضي 1998 ليشير صراحة إلى أنها تهدف إلى إثارة النقاش وتشجيع البحث والتفكير في مختلف جوانب «ما بعد الإنسانية» وإنتاج الثقافة الخاصة بها لدى الرأي العام.
لا يبدو سؤال الفلسفة هنا متجهاً نحو مصير الإنسان مفهومياً، بل نحو مصيره كوجود في الحياة القادمة. إمكانية أن يكون وشروط وجوده. وبمعنى آخر، وكافتراض رئيسي، يمكن اعتبار حركة ما بعد الإنسانية واعدة، تعد بتحسين ــ تغيير الوضع البشري بزيادة وتخطّي الحدود البيولوجية ــ الفيزيائية والعقلية لدى الجنس البشري.
لكن، ما هي الكيفية ــ المخالفة للطبيعة ــ التي تمكن من إنتاج بيولوجيا متقدمة ومتخطية للإنسان الحالي؟
أي كيف يمكن تغيير البيولوجيا الإنسانية من خارجها؟
يُعتبر Victor Frankenstein المولود في العام 1818 في رواية الكاتبة الإنكليزية ماري شيلي (1797 ــ 1851) نموذجاً تخيلياً مثالياً لـ«مخلوق» بهيئة بشرية ومتجاوزاً للحدود البيولوجية للبشر، هذا المخلوق سيسجل أسبقية أدبية / فلسفية للروائية الإنكليزية، أي سيظلُّ منتجاً من المخيال الروائي وحده، إلى الوقت الذي سيؤدي فيه التطور التكنولوجي إلى تمكين العالم الأميركي John McCarthy (1927 ــ 2011) في العام 1956 من نحت مصطلح «الذكاء الاصطناعي ــ Artificial Intelligence» مكرّساً ولادة أهم الحقول التقنية التي ستؤدي لاحقاً، مع غيرها، إلى تأسيس الطريق نحو عالم ما بعد الإنسانية.
يبدو العامل الفاصل في هذا الحقل متمثلاً في ولادة البرامج الإلكترونية «الخوارزميات ــ Algorithm» وتطورها المتسارع الذي سيصل إلى صياغة ووضع نظام من التعليمات المتتابعة التي يمكنها «دون تدخل» وعلى نحو تلقائي ذاتي من الوصول إلى ما يمكن اعتباره بـ«عملية خلق»، وهذا النظام هو ما نرتأي أن نضع له مصطلح «الرحم الرقمي» [المصطلح من صياغتنا الخاصة].
من الرحم الرقمي إلى الرحم التكنو ــ إنساني:
تطورت سلالة الإنسان الآلي Robot في تسارع أدى في منتصف خمسينيات القرن العشرين، إلى اتخاذه أكثر هيئة انطباقاً على الهيئة البشرية، إلّا أنه ظلَّ مستقلّاً كـ«وجود تقني» محض، إلى أن توصّل العالمان الأميركيان Manfred Clynes، Nathan Kline في العام 1960 إلى استيلاد وصياغة مصطلح Cyborg الذي يشير إلى نظام اندماجي تفاعلي ما بين صفات طبيعية ووصفات اصطناعية. فإن كان عالم ما بعد الإنسانية لا يقبل التعايش مع الإعاقة والألم والتعب والمرض فضلاً عن الشيخوخة باعتبارها صفات تحاصر الإنسان بحدوده البيولوجية الراهنة، يأتي النظام الاندماجي ــ السايبورغي ليتولى منهجياً تأمين ولادة أو تشكيل «كائن» ما بعد الإنسانية وفق مبدأ الحذف والإضافة. أي العمل على حذف الصفات السابقة وإضافة ما يمكّن من زيادة القدرات البيولوجية والعقلية للوصول إلى «كائن آخر». بهذا المعنى بدا سؤال تجاوز الإنسان، بيولوجياً، مطروحاً في حقل الملتقى الكبير La Grande Convergence لعلوم النانو والتقانة الحيوية والمعلوماتية والمعرفية الإدراكية، التي يتم اختصارها بحروفٍ أربعة:
NBIC = Nano + Bio + Info + S cong
يشكّل هذا الملتقى الهيكل العظيم لمراكز الأبحاث العملاقة التي تحدّق في المستقبل وتعمل على صياغته.
بالنسبة لشخص مثل راي كرزويل، الذي هو من أهم مهندسي المستقبل، يبدو العام 2029 المحطة الزمنية التي سيتمكن فيها الذكاء الاصطناعي من النجاح باجتياز اختبار Valid Turing ما يعني تماماً أنه وصل إلى مستوى الذكاء البشري، وهو ما سيتيح سلسلة تغيرات متسارعة تمكّن من تعديل «الكائن البشري» بدعمه ودمجه بالرقائق التكنولوجية الضرورية، التي تمكّنه من الوصول إلى العام 2045 ليدخل عصر «التفرّد التكنولوجي» الذي ــ برأينا ــ سيحيل الإنسان كما هو الآن، إلى كائن قاصر بحكم الانقراض لصالح «كائن ما بعد الإنسانية» المتولد من الرحم المشترك التكنو ــ إنساني.
[يمكن الاطلاع على آراء راي كرزويل هذه في مقالة منشورة تحت عنوان: Kurzweil claims that the singularity will Happen by 2045. Futurism.com وهي منشورة باعتبارها تلخص رأيه الذي قدمه في مؤتمر SXSW الذي عقد في ولاية تكساس ــ خريف 2017].
الفضاء السبراني وما بعد الإنسانية:
في العام 1998 أسس Larry page، Sergey Brin ما سيصبح عملاق الفضاء السبراني: Google ــ وللمصادفة الغريبة، هو العام نفسه الذي تأسست فيه الجمعية العالمية لما بعد الإنسانية. وفي العام 2010 تأسست Google X-lab وهو قطّاع خاص بأبحاث الذكاء الاصطناعي.
في العام 2012 انضم راي كرزويل إلى Google ككبير للمهندسين، وجاء انضمامه كإشارة دامغة، وهو الرؤيوي وواحد من المبشرين الكبار بعالم ما بعد الإنسانية، إلى أنَّ لاري بيج يتجه نحو العالم نفسه. بعد عام واحد، أي في العام 2013، تأسست Calico إحدى أهم شركات التقانة الحيوية ــ Biotechnologies ــ وانضمت إلى القسم الخاص بحقل الذكاء الاصطناعي، بغاية الوصول إلى القضاء على المرض وتأخير الشيخوخة والقضاء عليها وصولاً إلى دكّ عتبة الموت!
يدير هذا البرنامج «ما بعد الإنساني» في غاياته: Arthur Levinso وهو عالم بيولوجي، ومشارك في مجلس إدارة Apple، كما في مخبر الأدوية العملاق Hoffmann-la Roche، فضلاً عن إدارته لـGenentech المختصة بالتقانة الحيوية.
في هذه الإدارة، تمثلت المركزية الصارمة مع تكامل الخط المتمثل بالحروف الأربعة: NBIC.
عبر Colico وغيرها، دخلت غوغل مباشرة على برنامج إنتاج «كائن» ما بعد الإنسانية، الأمر الذي يؤدي منهجياً إلى التساؤل حول طبيعة العلاقة ما بين الفضاء السبراني عموماً وعالم «ما بعد الإنسانية»؟ والتساؤل هنا لا يختص بالعلاقة العملية المباشرة القائمة بينهما، بل يقع في مجال المعنى الوجودي لكليهما متحدين ومنفردين. أي سؤال في الحقل الوجودي ــ Antologie.
يستقوي سؤال الفلسفة في حركة ما بعد الإنسانية بمنجزات حقل الذكاء الاصطناعي، وفكرة تجاوز الحدود البيولوجية للإنسان، وتدمير أوجهه الضعيفة المتسببة بمرضه وألمه وشيخوخته… وصولاً لموته، ليست فكرة رمزية من الأدب الكلداني أو الإغريقي…. ولا حتى من الهوس الفرعوني بالخلود، بل هي فكرة مواكبة لمسيرة السلسلة الخوارزمية المتجهة للقبض على الدماغ البشري، كما لأبحاث الهندسة الوراثية ومختلف مجالات التقانة الحيوية. وعلى ذلك لا يمكن الحديث، إلّا مدرسياً وتبسيطياً، عن سؤال فلسفي محض لحركة ما بعد الإنسانية، بل يمكن دائماً التيقن من وجود ذلك التوليف التكنو ــ فلسفي حتماً.
بالمقابل، الفضاء السبراني بذاته وجود مركّب مادي ولا مادي، فيزيائي: مجسّم بأجهزة ومعدّات وأبنية ومخازن ومختلف المواد اللازمة لإقامة وصناعة «الجسم الصلب». ولا ــ فيزيائي تشكّله البرمجة ومجالاتها ورموزها. ومع اتساعه الهائل بمكوناته العملاقة اتجه الفضاء السبراني لتشكيل نفسه كـ«وجود آخر» على افتراض أن الواقع الذي نحن فيه هو «الوجود». من المؤكد أن عالم ما بعد الإنسانية لن يتم تعميره في فلك آخر أو كوكب آخر غير الأرض، بل سيكون هنا تماماً، في المكان الذي نحن فيه، ولكن سيسكنه ويقيم فيه ويفرض عليه شروطه «كائن آخر» سيعمل على إتمام مكونات البيئة المناسبة له. وستكون اللحظة التي ستحصل فيها حالة التطابق ما بين الواقع ــ Reality والواقع الافتراضي Virtual Reality ــ التي يقول عنها راي كرزويل أنها قريبة ــ هي المؤشر الأخير على أن «ما بعد الإنسانية» بـ«كائنها» وشروط حياته، سيكون الفضاء السبراني مكاناً لها ومحل إقامة لـ«كائنها».
ملوكٌ أو آلهة؟
يشكّل وادي السيلكون Silicon Valley الواقع في إحدى مناطق خليج سان فرنسيسكو في ولاية كاليفورنيا الأميركية، الحالة الأكثر انطباقاً لمعنى أن تكون التكنولوجيا العالية ــ High Technology هي «القدرة الذاتية المستقلة» التي تتجه لتفصيل وصياغة «عالم آخر» بـ«ساكنه» وبيئته ولوازمه. في هذا الوادي، تقيم شركات التكنولوجيا العملاقة وغيرها، التي يفوق عددها 1000 شركة، فيه Google، Yahoo، Apple، Inte، Tesla، Facebook، Twitter… وفيه جامعة Stanford التي تخرّج علماء الوادي والمبرمجين والباحثين، وفيه مختبرات التقانة الحيوية، ومراكز الأبحاث والمعاهد، وتتجسد فيه وحدة الحروف الأربعة: NBIC.
ملوك الوادي، هم أصحاب هذه الشركات وملّاكها، وعلماؤها، والمبرمجون والمهندسون… هم من أوصلوا الخوارزميات إلى تشكيل الرحم الرقمي، وهم تحديداً من يتحكم بالفضاء السبراني في جنباته يسرحون ويمرحون ويرتبون أماكنهم ومكان إقامتهم القادمة!
لا يتحركون كملوك أو أمراء أو نبلاء، بل يتصرفون كـ«آلهة»! لم لا؟ إن كان بإمكانهم ــ برقاقة إلكترونية ــ قلب وظيفة الـ«Terminator» من الاتجاه لقتل John connor إلى العمل على حمايته!! [الإشارة هنا، رمزية، والمثل من السلسلة السينمائية Terminator التي تم إنتاج أول شريط لها في العام 1984، ولكن في زمن تخيلي مستقبلي حينها هو العام 2029، وهو العام نفسه الذي يقول عنه راي كرزويل بأنه سيشهد وصول العقل الإلكتروني إلى مرتبة العقل البشري ومن ثم سيتجاوزه. هل هذا التوافق الزمني ما بين سيناريو سينمائي وأبحاث عالم مستقبلي هو محض مصادفة!!]
إن الشيفرة الرقمية لـ«الكائن» القادم هي، مع غيرها من شيفرات عالم ما بعد الإنسانية، بين أيدي هؤلاء الملوك الذين ينظرون إلى أنفسهم بمقياس «القدرة» كبشر غير عاديين!
نحن كبشر نرتضي الموت، أما «غير العاديين» و«الآلهة» لا يرتضون الموت أبداً.
الهندسة التخيلية لعالم ما بعد الإنسانية:
كيف يمكن تخيّل عالم ما بعد الإنسانية؟
هل يمكن تصوّر مشهد منه؟ بمكوناته؟ بأشخاصه؟
هل سبق أن رأيناه في السينما؟
ما علاقته بالتوضّع الذي فرضه فيروس كورونا؟
ولماذا يبدو وضع Stay Home، على نحوٍ خاص، متواطئاً مع ذلك العالم… القادم؟!
نظرياً، سيتأسس عالم ما بعد الإنسانية ويشيّد مكوناته في حقل «الهندسة التخيلية»، التي يفترض أن تمتلك تصوراً متكاملاً عن العالم الذي تتجه لبنائه وتشييد «واقعه»؟ والهندسة عموماً وإنْ كانت في النهاية «تملأ الفراغ» إلّا أنها لا تحشوه حشواً؟ بل تعكس خلفيتها الفلسفية والثقافية والجمالية والأخلاقية فضلاً عن تأمين الأبعاد العملية ــ الوظائفية لـ«تصميماتها وإبداعاتها» المجسّمة التي ستنهي فراغاً ما.
بهذا المعنى، يمكن القول إنه ومنذ خروج الإنسان الأول من «كهفه» بدأ «يهندس» فراغ الطبيعة ويعكس على المكونات التي يتصورها حالته بكل جوانبها، النقطة المركزية دائماً كانت ولا زالت، والتي تتأسس عليها التصورات هي «الكائن» الذي يقيم ويملك هذا العالم، إلى الآن هو: الإنسان.
يقطع عالم ما بعد الإنسانية، بأن الكائن الذي سيشغله لا يمكن أن يكون الإنسان الحالي، بل كائن متقدم، هو إنسان معدّل… وعلى ذلك يحتاج إلى «واقع معدّل ــ آخر» لا بدّ من إنجازه كي يشكّل البيئة المناسبة له. وبهذا المعنى يتواطا فيروس كورونا، إذ يفرض وضعية «البقاء في البيت» التي وفق قراءتنا قدمت خدمة عملية، لا مثيل لها، لعالم ما بعد الإنسانية وهندسته التخيلية الخاصة به.
أدّى توضّع «البقاء في البيت» الذي اتخذه أكثر من نصف سكان الأرض، وعلى نحوٍ تلقائي إلى صياغة مشهد يمكن أن تستند إليه «الهندسة التخيلية» المعنية بتصميم عالم ما بعد الإنسانية، ويشكّل هذا المشهد بذاته وبما أفضى إليه «عملية متكاملة» تبدو عناصرها وفق النسق الآتي:
أولاً ــ إجلاء البشر ــ Evacuation:
أدت حالة «البقاء في البيت» إلى إنجاز وظيفة وقائية لتجنّب وباءٍ هائجٍ شرس ومعدٍ وفق الوضعية الاجتماعية التي تجمع البشر في الحياة ا لطبيعية. لكن هذه الحالة، في جانبها الآخر، شكّلت أوسع عملية إجلاء للبشر من الأماكن العامة التي بدت فارغة خالية.
بهذا المعنى، أدت عملية الإجلاء، إلى صياغة «الواقع» دون بشر، أي أنتجت «فراغاً إنسانياً» في الواقع، ما أدى إلى مشهد استثنائي غير مسبوق.
ثانياً ــ القطيعة مع الواقع Reality:
تسببت هذه الحالة، بإنتاج قطيعة شبه تامة مع الواقع «خارج البيت» الذي أمسى مخيفاً مرعباً ومصدراً للمرض.. والموت؟ إن مرة واحدة يخرج فيها الإنسان من بيته أسبوعياً، أو كل أسبوعين كي يؤمّن حاجياته، تزيد من منسوب خشيته من «الواقع» وترفع درجة خوفه منه، وستدفعه في النهاية لاعتماد التسوّق: En Ligne، ما يعني تماماً أنه ينفذ تمريناً مباشراً وعملياً على تكريس التعود على حالة القطيعة مع الواقع، والتفكير بإعادة العلاقة معه وفق المنهج الذي يقرّبه ويقصي خوفه في آن.
ثالثاً ــ الاستسلام لـ«الواقع الافتراضي ــ Virtual Reality:
مقابل القطيعة مع «الواقع»، بدت حالة الاستسلام لـ«الواقع الافتراضي» كبديل وحيد عن «غائب»، فهذا الواقع المخيف المرعب والبعيد الذي يبتدئ من باب البيت، سيكون أليفاً وأميناً وقريباً، بل طوع بنانك من وراء «الشاشة الصغيرة» في هاتفك العجيب. وعلى ذلك سيجد المقيم في المنزل، نفسه مقيماً في «الواقع الافتراضي» ومستسلماً تماماً لمعطيات ووسائط الفضاء السبراني [عمل ــ دراسة ــ تسوّق ــ خدمات ــ طبابة ــ اجتماعيات ــ ترفيه… الخ].
رابعاً ــ التماسف الاجتماعي ــ Social distancing:
يتشكل التماسف الاجتماعي في مستويين، الأول هو الساكن الذي يلاحظ في حالة «العزل المنزلي» حيث التزام الإنسان ببيته يؤمن تلقائياً المسافة المطلوبة لأمانه. والثاني المتحرك وهو الحالة التي يُرى فيها الأشخاص وهم يتحركون في الخارج، على أبواب المتاجر أو في الاجتماعات… أو غيرها. وفي هذه الحالة تفرض منهجية التماسف شروطها بألّا تقل المسافة بين شخص وآخر عن المترين، وألّا يدخل إلى المتجر إلّا عدد محدد محسوب استناداً إلى المساحة الإجمالية للمتجر، وألّا يجلس في قاعة الاجتماع إلّا عدد محدد وموزع وفق المبدأ نفسه.
التماسف هنا، لا يؤدي إلى «تباعد اجتماعي» ــ كما هو شائع ــ بل يفرض «هندسة اجتماعية» جديدة ومختلفة تعيد بناء الشكل الاجتماعي وفق حالة وفلسفة ومنهجية وسائط «الواقع الافتراضي» الذي يمكن التواجد في أماكنه العامة وساحاته و«الاحتشاد والازدحام» فيها دون خوف، ودون رعب من وباء يستحيل عليه اختراقه.
خامساً ــ المجال الفردي الجديد:
نقصد بالمجال الفردي، هنا، تلك المساحة اللازمة للفرد ــ في حدها الأدنى ــ كي يتحرك فيزيائياً في مختلف حالات التوضّع الجسماني: الوقوف ــ الجلوس ــ التمدد ــ الحركة أثناء المشي أو العمل «حركة الرجلين واليدين».
إذا كان «الواقع الافتراضي» يتيح للفرد مجالاً واسعاً لا يقاس بوحدة المساحة أو المسافة، فإن «الواقع» ووفق مشهد «التماسف: 2 متر» يعطي للفرد مجالاً جديداً أوسع من ذلك القديم الذي كان محكوماً بعشوائية وارتجالية وضيق. هل يقدم هذا المشهد «مثالاً حياً» للهندسة الاجتماعية المعنية بدورها بعالم ما بعد الإنسانية، والتي تحاول من جهتها إعادة تشكيل التوضّع الاجتماعي وفق مواصفات «الكائن المعدّل» جينياً وتقنياً؟
ما هي مقاييس هذا الكائن؟ حجمه؟ حركته؟
هل هو مثلاً بحجم Arnold Schwarzenegger كما ظهر وعاش وتحرك في Terminator؟
وتالياً: ما هي الكثافة السكانية المفترضة المحسوبة في الكيلومتر المربع الواحد؟
هل الأماكن المزدحمة تناسب هذا الكائن؟
هل تجمعات السكن العشوائي وأحزمة الفقر حول المدن الكبرى يمكن أن تكون جزءاً من العالم القادم؟ أم يفترض حذفها واستبدالها بمواصفات أخرى؟ هل يمكن استبعاد الأمراض السارية والمعدية مع هذه الديمغرافيا المحتشدة والضعيفة؟.
هل الشيخوخة كحالة انسانية لها مكان في العالم الجديد؟.
سادساً: الديمغرافيا المتجددة:
ثمة مؤازرة ملفتة وخاصة، قدّمها ولا يزال وباء كورونا في نسخته الراهنة Covid-19، لعالم ما بعد الإنسانية، وذلك باستهدافه المباشر لشريحة كبار السن والعجزة وأصحاب الأمراض المزمنة، وهو الاستهداف نفسه لعالم ما بعد الإنسانية وشركات التقانة الحيوية التي تعمل في الإطار الذي يستبعد المرض والعجز والشيخوخة عن الديمغرافيا المتجددة القادمة.؟
ألا يساعد وباء كورونا، بهذا الأداء الغريب، عالم ما بعد الإنسانية على تسريع خطواته، عبر تدمير ما يمكن تدميره من المناطق الضعيفة: كبار السن والمرضى من المجتمع الإنساني؟ ألا يكون الأخذ بـ«مناعة القطيع ــ Herd immunity» وهو خيار دارويني ما، نوعاً من العمل الذي يؤدي تلقائياً إلى تدمير «الديمغرافيا الضعيفة» على أمل الوصول إلى «الديمغرافيا القوية.. الواعدة» التي ستشغل وتقيم في ذلك العالم؟
الآن: أدّت هذه العملية المتكاملة والمتضامنة بعناصرها، إلى تزويد «الهندسة التخيلية» لعالم ما بعد الإنسانية، بتطبيق حي لرؤيتها، هو في الواقع أشبه بـ«مناورة حية» أعادت تشكيل التوضّع الاجتماعي وفق مواصفات العالم الجديد القادم، وخصوصاً وتأسيساً وفق مواصفات شاغله ومن سيقيم فيه.
وسواء أكان Covid-19 مولوداً طبيعياً أو مخبرياً، يبقى أنه على الأقل بـ«فاعليته» أعطى زخماً استثنائياً للتوليف التكنو ــ فلسفي المشكّل لحركة عالم ما بعد الإنسانية.
الإنسان وإنسان ما بعد الإنسانية:
لا يبدو سؤال الأخلاق مناسباً لمقاربة الإنجازات التي حققها وسيحققها Covid-19 لصالح خيار ما بعد الإنسانية، ذلك لأن هذا السؤال بمضمونه منتمٍ إلى عالم الإنسانية وسينقضي معها افتراضاً، فيما سيؤسس العالم الجديد أسئلته الخاصة وقيمه ومثله العليا وأخلاقياته ما بعد الإنسانية.
وإذا كان «إنسان الإنسانية» محكوماً بما أنتجته، منذ بدئها، من ثقافة في مساقاتها المتنوعة المصادر الدينية وغير الدينية، الفلسفية والأدبية، عدا العلمية عموماً، والأخلاقية خصوصاً… والتي كلَّها تشكّل «وعي الإنسانية» لذاتها، ومجسات لاستشعارها بـ«كينونتها».. فبأي ثقافة سيبتدئ «إنسان ما بعد الإنسانية» تأسيس وعيه لذاته وتعريفاً لكينونته؟
وفي مستوى رؤيوي آخر، هل يمكن رؤية مواجهة قادمة ستحصل ما بين الإنسان وإنسان ما بعد الإنسانية، استناداً إلى منطق تاريخ الانتربولوجيا؟
مواجهة، ليست بالضرورة على شكل صراع ثنائي مباشر، ولكنها سباق واحتدام بـ«الخيارات والكفاءات» التي سيرجّح واحدة على الأخرى فارق «الوعي ــ العقل»؟ في نسخة مستجدة عن مشهدية المواجهة ما بين الإنسان العاقل وإنسان النياندرتال والتي حسمت لصالح الإنسان العاقل الذي هو نحن بانتصار خياره وكفاءته، بعد حقبة تعايش بينهما؟
واستتباعاً لذلك، يمكن التساؤل: هل بدأت الآن، أو ستبدأ قريباً جداً حقبة ا لتعايش ما بين الإنسان وإنسان ما بعد الإنسانية قبل أن ينتصر هذا الأخير بخياراته وكفاءاته وتخطيه الحدود البيولوجية للإنسان، وخصوصاً، بـ«عقله ــ وعيه» المدجج بالرقاقة الإلكترونية التي ستعطيه أرجحية بملايين وربما مليارات المرات على وعي وعقل الإنسان؟
تساؤلات تخص مصير الإنسانية وإنسانها: موتاً أو حياةً؟
قبل أن تخرج من البيت:
عليك أن تعود إلى فيلم ماكس مور ومن معه، لتقرر إن كنت من الجيل الأخير الذي سيموت كـ«إنسان» فتبقى مع paul، أو الذي سيولد كـ«إنسان ما بعد الإنسانية» فتغادر مع Anna لتفتح رأسك للقابلة التكنولوجية لتدعمك برقاقة الحياة القادمة بعد أن تنجح باختبار عدم إصابتك بأي مرض إنساني مزمن.
انتبه!
كورونا بنسخته الراهنة، وربما القادمة، لا يزال يعمل بفاعلية لاكتساح المناطق الضعيفة من «الإنسانية» التي تبدو كـ«قربان» يقدم على مذبح «آلهة» ما بعد الإنسانية الذين فقدوا صبرهم، ولم يعد بمقدورهم الالتزام بالمخطط الزمني القديم، آن وقتهم قبل الأوان!!
هذا الطموح القديم للحكم و السلطة ، أفادته التكنولوجيا لتصبح حياة الإنسان عبارة عن آلهة و عبيد🙁