أوراق العالم القادم

الفوضى الحتمية و “تأثير الفراشة”

هل نحن محكومون بنظام الفوضى الحتمية؟

كذب علماء الطقس ولو صدقوا… “تأثير الفراشة”  The Butterfly Effect  ونظرية “الفوضى الحتمية”
 بين توق الإنسان لمعرفة المستقبل وعدم دقة نشرات الأخبار الجوية

المذيع عدنان حمدان يلقي النشرة الجوية في التلفزيون السوري

“يتوقع غداً صباحاً بدء تساقط الثلوج على ارتفاع 500 متر واستمرار الهطول حتى ساعات متأخرة من ليل غداً”. إنها عبارة لطالما ترقبها أطفال بلادنا في نشرات الأخبار ليعلقوا عليها أحلامهم بعدم الذهاب إلى المدرسة وبدلاً من ذلك اللعب بالثلج مع أصدقائهم طوال اليوم…ليُفاجأوا في صباح اليوم التالي بشمس عالية وطقس جميل يكاد يخرج من أغنية فيروز “آخر أيام الصيفية” فتتكسر أحلامهم البريئة على عتبة نشرة الطقس ليحملوا أحزانهم على ظهرهم في حقيبة المدرسة وتذهب قدرتهم بالثقة بأي شيء آخر في مهب الريح فلا يعودوا يصدقون أحداً، لا في طفولتهم ولا في شبابهم في حدث جلل يساوي تأثيره تأثير اكتشاف أن بابا نويل شخصية خيالية!

ولكن، لماذا تقع هذه الأخطاء الكبرى؟ وما سرّ هذه الفوضوية في تنبؤ الطقس؟ ألم يسعى أجدادنا منذ آلاف السنين لإيجاد طريقة ثابتة للتنبؤ بالطقس الذي له أثر كبيرعلى حياتنا اليومية كبشر من الزراعة إلى التجارة إلى التفاعل الاجتماعي. كل شيء تقريباً يتأثر به، وفصول السنة الأربعة تنظم حياتنا بشكل دوري فنتأقلم معها ونرضخ لما تفرضه علينا. والأمر يتعدى ذلك فسلامتنا وسلامة عائلاتنا متعلقة بشكل وثيق بالطقس، فالظواهر الطبيعية الجوية كالأعاصير الضخمة والعواصف الكبيرة هي أحد أفظع الكوارث التي إلى الآن لم تستطع البشرية مواجهتها، فلا بد من دراسة إمكانيّة وقوعها وتوقع حدوثها لتجنب آثارها السلبية علينا.
 تاريخياً، إن أول من حاول التنبؤ بالطقس أو كما نقول علمياً “توقع الطقس” هم البابليون والحضارات الآسيوية القديمة ثم اليونان والرومان، حيث استمر ذلك إلى يومنا هذا. كل حضارة تضيف إلى سابقتها شيئاً من مكتسباتها العلمية لمحاولة توقع الطقس بطريقة صحيحة! هذا بالإضافة إلى الممارسات أو العادات غير العلمية مثل “مطبوخ الأرمن” و “البواحير” او مراقبة “جرذ الأرض” Groundhog في البلاد الغربية!

آليّة توقع الطقس

خريطة انتشار محطات استشعار الحالة الجوية في العالم

في أيامنا هذه تقوم آلاف محطات الاستشعار المنتشرة حول العالم بجمع بيانات لحالة الطقس كل ساعة، هذه البيانات تتكون من عوامل الطقس البسيطة مثل الحرارة والضغط الجوي وسرعة واتجاه الرياح. ثم ترسل هذه المعلومات إلى مراكز التنبؤ بالطقس والتي تحلل هذه المعلومات الكثيرة وتبنى منها نماذج رياضية بواسطة كمبيوترات فائقة Super Computers ينتج عنها توقعات حالة الطقس في الأيام التالية.

في البدء كانت مشكلة توقع الطقس من أعقد مشكلات الكمبيوتر للحساب الآني Realtime Processing فببساطة لو أردت أن تتوقع الطقس الذي سيقع بعد يومين فإنك تحتاج إلى تشغيل برنامج للقيام بحسابات تستغرق 5 أيام، أي وأنه في اللحظة التي ستحصل فيها على النتيجة ستكون النتيجة بلا فائدة . إلا أن تطور الخوارزميات الرياضية وازدياد القدرات الحسابية للكمبيوترات جعل من الممكن التوقع بالطقس قبل حدوثه مما ساهم بزيادة شعبية النشرات الجوية. ولكن لماذا وبعد كل هذا الحساب الدقيق تكون النتائج غير دقيقة في معظم الأحيان؟ إن أغلبنا قد اختبر يوماً موقفاً كانت فيه توقعات الطقس مغايرة تماماً للواقع وانتهى به الموقف بإلغاء أو تأجيل أو تغيير ما كان يسعى للقيام به! لكننا ضمنياً لا نلوم علم الأرصاد الجوية ولا نعلنه علماً بلا فائدة، فنحن نعلم ضمنياً أنه ليس كاملاً وتشوبه شوائب عديدة ونعلم ضمنياً أيضاً أن أفضل ما يمكن أن يقدم لنا هو احتمالات فقط لا حتميات.

إن هذا الحدس الضمني البشري بأن الأشياء ليست دائماً ثابتة ويقينية، يمكن إثباته علمياً بواسطة الفيزياء الكمية، ولكن ليس بالضرورة أن نكون كلنا علماء فيزياء لنسلم بحقيقته فهو يرافقنا من صغرنا بكل شيء حولنا في هذا العالم المتغير فيتشكل كقناعة لدينا عند تكون وعينا فهو يحيط بنا في كل مكان… إنه نتاج تلك القطبة الخفية المجهولة دائماً التي نحاول أن “نحسب لها ألف حساب” … إنها الفوضى!!

العالم إدوارد لورنز

في ستينات القرن الماضي قام عالم الأرصاد البروفيسور إدوارد لورنز باستخدام الكمبيوترات التي تستخدم في فحص وإطلاق الاقمار الصناعية في محاولة منه لتوقع الطقس بدقة…وقد قام ببناء أول برنامج لتوقع الطقس. كان البرنامج بسيطاً جداً، تزوده بمعطيات عن الحرارة وسرعة الرياح والضغط الجوي فيعطيك نفس المعلومات ولكن بتوقع ساعة للمستقبل، ثم تعيد إدخال هذه المعلومات الجديدة كمدخلات…فينتج عنها توقع ساعتين في المستقبل وهكذا حتى تصل للحظة الزمنية التي تريدها. في محاولته الأولى أدخل لورنز المعلومات من اللحظة الزمنية الحالية وترك البرنامج يعمل لساعات…ثم في محاولته الثانية قرر البدء من المنتصف لتوفير الوقت فقفز إلى الأمام بضع ساعات وبدأ من منتصف نتائج محاولته الأولى وترك البرنامج يعمل لساعات أيضاً… حينها كانت صدمته كبيرة عندما اكتشف أن النتائج في المحاولتين مختلفتين كلياً وكأن البرنامج يتوقع حالة طقس مختلفة كلياً ليومين مختلفين تماماً، مع أن المعلومات التي أعطاها للبرنامج هي ذاتها في الحالتين!  ليمضي بعدها لورنز أشهراً من العمل لمحاولة معرفة سبب هذه الفروقات الشاسعة، ففي هذا البرنامج “الحتمي” Deterministic تقول كل العلوم أن نفس المدخلات ستعطيك نفس النتائج. فكيف اختلفت النتائج؟!

كان السبب أن البرنامج يقوم بطباعة الأرقام بتدوير أقرب ثالث خانة بعد الفاصلة لضيق مساحة الطباعة… ولكنه ضمنياً يحتسب ست خانات بعد الفاصلة…فعندما أدخل المعلومات في المحاولة الثانية كانت بدون الخانات الرابعة فما فوق بعد الفاصلة مما سبب كل هذا الفرق الشاسع! لكن كيف لقيمة مهملة وأقرب إلى الصفر (واحد من ألف بعد الفاصلة) كهذه القيمة أن تؤثر هذا التأثير الشديد على النتائج النهائية؟

لقد استنتج لورنز أن أي تغيير في الحالة البدائية Initial Condition لأي نظام في هذا الكون حتى لو كان بسيطاً جداً سيغير النتائج النهائية بشكل جذري…وهذا ما أسماه مجازاً “تأثير الفراشة” The Butterfly Effect حيث أن الحساسية الشديدة للتغيير في الحالة البدائية قد تجعل من رفة جناح فراشة في غابات الأمازون تؤثر على الطقس في الولايات المتحدة. هذه الظاهرة التي كان مكتشفها لورنز والرائد فيها أطلق عليها علمياً في النهاية “الفوضى الحتمية” Deterministic Chaos

تأثير الفراشة The Butterfly effect

نيوتن وبدايات اكتشاف الفوضى الكونية

اسحق نيتون

إن مبدأ الفوضى وإعجازها بوجه العلماء ليس بجديد…ولعل أشهر هذه الاعجازات التاريخية هي مشكلة الأجسام الثلاثة the three body problem. ففي العام 1666 قام نيوتن أحد أهم العقول في العصر الحديث بوضع قوانينه الثلاثة التي بنيت عليها كل الفيزياء النيوتونية والتي تحكمت بعجلة العالم والعلوم لقرابة ثلاثمائة عام.

من هذه القوانين يمكننا أن نحتسب موقع وسرعة اي جسم يتحرك نريد أن ندرسه بشرط ان تتوافر معلومات بسيطة عنه مثل كتلته وسرعته الابتدائية.

هذه القوانين كانت ثورة في عالم الفيزياء حتى أنها مكنتنا من وصف حركة الأرض حول الشمس وتوقعها بسهولة شديدة، فهذه الحركة هي ببساطة نتيجة جاذبية جسم أول وهو الشمس لجسم ثانٍ وهو الأرض. ويمكن بمعادلة بسيطة

مسألة الاجسام الثلاثة

توقع حركة الجسمين بالنسبة لبعضهما في الماضي والحاضر والمستقبل. لكن المفارقة أنه عندما يصبح عدد الأجسام المدروسة ثلاثة أجسام بدل جسمين كإضافة القمر مثلاً إلى الأجسام المدروسة يصبح من الاستحالة إيجاد حل لهذه المسألة الفيزيائية. وبقيت هذه المسألة بدون حل إلى يومنا هذا رغم كل التطور الهائل الذي حدث. إن هذه المسألة عٌرفت باسم “مسألة الأجسام الثلاثة” الذي قال عنها نيوتن أحد أنبغ عقول البشرية أنها المسألة الوحيدة التي سببت له اوجاعاً في الرأس.

في العام 1889 قام ملك السويد أوسكار الثاني بطرح جائزة لمن يستطيع حل مسألة الأجسام الثلاثة. ربح يومها العالم الفرنسي العبقري هنري بوانكاريه الجائرة ليس بإيجاد حل للمسألة، إنما بشرح كيف أنه من المستحيل أن يكون لها حل!

تمثيل حركي لمسألة الأجسام الثلاة
تمثيل حركي لمسألة الأجسام الثلاة
الرسم البياني للنواس المزدوج
الرسم البياني للنواس المزدوج

ذلك لأنه ضمنياً، إن النظام الناشئ من دراسة الأجسام الثلاثة هو “نظام فوضوي” Chaotic System مما يعني أننا بحاجة إلى دقة فائقة لا يمكن للعقل البشري أن يستوعبها للحصول على نتيجة ثابتة من معادلاته الرياضية. إن مثل هذه الأنظمة الفوضوية موجودة بكثرة في عالمنا ومن حولنا وهي في الحقيقة موجودة أكثر من الانظمة الحتمية، فمثلا النوّاس (البندول أو رقاص الساعة) هي مسألة فيزيائية بسيطة يكاد يتعلمها أي طالب في المدرسة في المرحلة الثانوية ويمتحن فيها في امتحانات الثانوية…ولعل رسم النوّاس البياني مألوف لملايين من الناس بسبب تعلمهم له في المدرسة… ولكن لنضع نوّاساً آخراً في نهاية النوّاس الأول فتصبح المسألة تسمى مسألة “النوّاس المزدوج” Double Pendulum ويصبح النظام فيها نظاماً فوضوياً وعندها لا يمكن لكل علماء وكل كمبيوترات الكرة الارضية من حل هذه المسألة وحساب منحى حركة البندول المزدوج رغم كل التطور والحداثة التي وصلنا إليها.

يجب الإشارة هنا أن في هذه الأنظمة الفوضوية لا يوجد شي “عشوائي” Random  كلها متغيرات “حتمية” Deterministic  فلو أمكن وضع النظام في حالة بدائية تماماً بدقة لا نهائية كحالة بدائية أخرى لأعطى نفس النتائج ولتمكنا من حسابه ولكن هذا الأمر مستحيل لذلك فهذه الأنظمة هي “حتمية” Deterministic وفي نفس الوقت لا يمكن التنبؤ بها Unpredictable

تمثيل حركي لنواسين مزدوجين متطابقين وقي نفس الحالة البدائية
تمثيل حركي لنواسين مزدوجين متطابقين وقي نفس الحالة البدائية

الفوضى في حياتنا اليومية

في الحقيقة إن معظم أنظمة العالم تندرج تحت نوع أنظمة الفوضى الحتمية فنظام البورصات العالمية مثلاً هو نظام محكوم بقوانين الفوضى الحتمية، أو مثلاً نظام تنامي السكان العددي والنظام الشمسي والطقس.

ولا تقتصر الصعوبة في هذه الأنظمة على تنبؤ المستقبل بل أيضاً الرجوع في الماضي لمعرفة الأسباب الكامنة وراء حدث معين.

فهي أشبه بجسر يلفه الضباب من طرفيه ونحن في منتصفه فنستطيع أن نرى قليلاً للأمام وللوراء ولكن لا يمكننا الرؤية أبعد من ذلك.

تمثيل مجازي للأنظمة الفوضوية
تمثيل مجازي للأنظمة الفوضوية

ومن نتائج هذه النظرية أنه لا يمكن التنبؤ بحالة الطقس بدقة لمدة أكثر من أسبوع حتى بوجود الكمبيوترات الضخمة، لا بل إن الدراسات أثبتت أنك إذا قرأت نشرة أحوال الطقس لليوم الثامن في المستقبل فستكون احتمالية دقتها موازية لدقة تنبؤك بنتيجة رمي النرد.

لذلك يا عزيزي القارىء عندما تشاهد نشرات الأرصاد الجوية في المستقبل أو تشتري أسهماً في البورصات العالمية تأكد أن الفوضى الحتمية سترافقك في مخططاتك لأنها من طبيعة كوننا الذي نعيش فيه.

منير سمعان

مهندس كمبيوتر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق