جماليات

كل ما في الأمر

وليد الهليس بعيداً في شعره.. بعيداً عن كتابه!

لست متطرفاً لأقول: “كل ما في الأمر”، أنّي لا أقرأ شعراً في هذه الفوضى إلاَّ لوليد الهليس، بل أقرأ لغيره من الشعراء، غير أنّي أعتقد أنَّ (أمره) هو مع الشعر استثنائي إذ يخيّل لي أنّ كل قصيدة يضعها ليست سوى نسخة جوانيّة من ذاته مُوصى بها للشعر، وها هو يسلمها لتلك المملكة قصيدة تلو الأخرى. بهذا المعنى هو من القلائل الذين يمكن رؤيتهم شعراء في هذا البيئة اللغويّة الكلاميّة الخَرِبَة الثرثارة الملوثّة التي تسود صفحات العالم السيبراني غير مكترثة بالورق وحبره ودفئه ومملكته الخاصة التي لا يمكن ولوجها إلاَّ غوصاً في (بحر الحبر) ومن تحت عتبة دفّة الغلاف الأولى التي يقابلها الغلاف الأخير الذي ليس سوى حدودها، حيث بعدها يبدأ الخواء.

نشر الهليس العديد من القصائد على موقع سيرجيل، وكنت أعتبر أنَّ شعره هو الوجه الجميل للموقع الذي اعتاد على الاهتمام بنشر المقالات والبحوث الاشكاليّة والتي في النهاية تؤرّق القارئ وتنهك خياله وتتعب استرخاء قناعاته ومرجعياته. قصيدة وليد الهليس تقول له مرة أخرى، يمكنك أن تقلق، ولكن من فيض العذوبة، ويمكنك أن تتعب، ولكن من تتبع الكشف وملاحقة المعنى وصعقات الدهشة، ويمكنك أن تحظى ولمرة نادرة برؤية (داخلك – أقاصي نفسك) يقف أمامك صانعاً لك لحظة خاطفة خارج هذا العالم.

عندما اقتنع وليد بضرورة ترتيب سكن لقصائده بين دفتي كتاب ورقي، قلت في نفسي ها هي فرصة ممتازة للعودة إلى مملكة الشعر. وكان علينا أن نعدّ الكتاب ونطبعه في دمشق التي لا زالت تغوي الشعر بمعناها رغم مرارة وقساوة واقعها. غير أنَّ دمشق لم تكن وحيدة في إنجاز هذه العودة، حيث اشتركت حيفا عبر تصميم ورسم الغلاف في إكساء الديوان رؤية خاصة شاء وليد أن تكون خالية من الألوان لنتدبر نحن من نقترب من شعره أمر ألواننا كما نحب.

حسناً، خرج الديوان من المطبعة، كنت في دمشق حينها، وحاولت مراراً إرساله إلى القاهرة أو السويد حيث يقيم وليد، وحتى إلى بيروت، لكن كان من الصعوبة تجاوز الأسلاك المحكمة والأطواق التي يفرضها (قيصر) إلاَّ بـ (تهريب) عدّة نسخ في حقيبة سفري عندما قفلت عائداً عن طريق بيروت.

أرسلت عبر البريد الجوي عدة نسخ إلى عنوان وليد حيث يقيم وقد وعدته بأنّي سأوصل له ديوانه الذي أصبح من (لحم ودم) حتى لو اضطررت لعبور المحيط سباحةً!! وقد كنت آمل أن تصله النسخ عبر البريد فوراً كي لا أضطر إلى ذلك الخيار. أكثر من شهر مرّ وإذ بمكتب البريد يعيد لي الكتب بدعوى وقوع خطأ في العنوان ارتكبه الموظف الذي بدل أن يوجه المغلّف إلى السويد وجهه إلى سويسرا، ربما مفضلاً الحياد السويسري على اللوثة الأطلسيّة التي أصابت السويد راهناً؟

ما العمل؟ هل أتجه نحو البحر حاملاً الديوان ليردعني الموج فأندم على (دونكيشوتويّة) ارتجاليّة لا يمكن أن أتجاهلها أمام نفسي؟

لم أفعل، ولم أتجه نحو البحر ولا حتى النهر الذي أقيم إلى جواره، حيث أنقذني الصديق والشاعر سعادة سوداح الذي صادف أنه سيتجه نحو أوروبا وسيمر على السويد وسيرى وليد حتماً. حمل معه نسختين فيما عدت من الشاطئ الافتراضي الذي يهددني سالماً.

“كل ما في الأمر”، ديوان من لحم ودم، صنع من بين ما صنع هذه القصة، التي أجمل ما فيها ذلك اللقاء الذي تجده على الصفحة الداخليّة الأولى، اللقاء بين دمشق وحيفا…

قبل أكثر من قرن بقليل، كانت حيفا هي بوابة دمشق الثامنة، بوابتها على البحر، ميناؤها التجاري والسياحي، منها كانت تشمّ رائحة المتوسط. نظريّاً خلال ساعة وربع يمكن أن تغادر دمشق وتكون في حيفا. أي حلم هذا يا وليد؟

بعد حيفا، أصبحت بيروت واللاذقيّة وطرطوس، نوافذ لدمشق على المتوسط. وخلال عقد مضى كادت دمشق أن تفقد تلك النوافذ بفعل حرب الإلغاء كما بفعل الحصار المحكم القاتل!

تُراني خرجت عن النص؟ فبدلاً من الحديث عن الشعر غرقت في التاريخ وشؤون المصير؟

ربّما، لولا أنَّ “كل ما في الأمر”، أنَّ حيفا قرب دمشق، قربها تماماً.

دمشق وحيفا

أمثلة عن افتتاحيات لتقديم قصائد وليد الهليس نُشرت في “سيرجيل”

-1-

يُخيّل لي، أنَّ وليد الهليس مُصاب بحالة من – الشعريّة المفرِطة – التي تكاد تكون لغة غريبة في عالم مُصاب – بالا شعرية – أو بما أدعوه: التوحّش اللغوي. وهو مصطلح يحيل إلى ما قبل اللغة… إلى الغمغمة والحشرجة و(التصويت: إصدار الأصوات) الخارج من الحنجرة متجاوزاً لسان اللغة الذي دونه سيظل العواء هو اللغة المشتركة بين الانسان وسكان الغابة جميعهم.

ينقذنا وليد الهليس بشعريته المفرطة ويحمينا بأغانيه من توحش يقبع على طرف اللسان.

-2-

يدهشنا وليد الهليس، إذ يقدّم ما يُفترض أنّه (عادي ومألوف)، على أنّه شعر؟ بل هو في أقصى معناه. لا تغريه اللعبة اللغويّة الفوقيّة المستبدة بخيال القارئ، بل يدعوه لتلمس ذاته وحياته بترتيب مختلف لمفرداته وتفاصيله. ترتيبٌ يغيّر كيمياء العلاقة ما بين الكلمة وإيقاعها المتغلغل عميقاً في قارة الإحساس الجوانيّة القصيّة، ليكتشف أنَّ الكلمة العاديّة يمكن تتويجها ملكة في عالم شعري ينشر روحه كفضاءٍ لا متناهٍ، فيما كلمات قاموسيّة طاووسيّة، من عالم (الفكرويّة الحداثويّة) غالباً ما تقضي كجثة هامدة، مع نهاية الاستعراض النصّي المبهر.

يخلّص الهليس الشعر من فخ تلك المتاهة المرهقة الثقيّلة، فيأتي رشيقاً وومضاً وكشفاً… عذباً كعين هدهد حكيم يقيم في الجنّة.

-3-

يأخذ وليد الهليس بنصيحة جلال الدين الرومي، فلا يتظاهر بالعَرَج، ولكنه يخالف توصيته بصعود السلّم الواصل إلى السماء درجة بعد درجة. انخطافٌ خارج المعنى السميّك، كافٍ لتأسيس معنى يوحّد الحقيقة بالخيال. آنذاك سينخطف من بأعلى السلّم باحثاً عن عشقه في حريق أزليّ مشعّ يسكن قلباً هو المعنى الذي لا يرى سلّماً… ولا أعلى … ولا أدنى.

-4-

لا يتظلّم وليد الهليس كـ (يوسف)، شاكياً إخوته القساة لأبيه، بل يرى إخوته/ شعبه، ربما الإنسانية، خارج المعنى وتحت مقصلة مسمومة تتجه نحو الجذر. هو لا يكتب وصيّة ويمضي بعيداً، بل يقف على رصيف الأفق، يبشّر كـ (نبي) جبران قبل أن تنصب سفينته شراع السفر.

-5-

ينتشل وليد الهليس من داخلك القصيّ، ذلك الشغف بالموسيقى، فما تكاد تقرأ حتى يبدأ خيالك بالرقص وتتراكض المشاهد المبللة بدموعٍ، من المحال أن تعرف إنْ هي لطفل يلعب بأول الوقت أو لرجل يُبعد (عتمة العمر)؟ ستعيد القراءة وتدندن كي يستكمل خيالك الرقص…وأكثر.

‫3 تعليقات

  1. عزيزي نزار،
    يخيل الي أحيانا أن الرمز هو “عشبة الخلود” الحقيقية التي عاد بها جلجامش وبها انتصر على أفعى الزمن. دمشق وحيفا مدينتان للرمز عامرتان في أرواحنا. لقد وعدتني بعبور البحر سباحة حاملا الديوان الذي يعود نشره فكرة وتنفيذا اليك. ولكنك لا تعلم كيف أنك بهذا الوعد قد أطلقت في رأسي صورة فنتازية لنزار مصارعا الموج, حاملا فوق ظهره مغلفا لا ينفذ منه الماء الى ما يضمه من نسخ الديوان, غير أنني رغم الفنتازيا، لم أنج من خيط قلق رفيع حقيقي ولا عقلاني معا؛ قلقا عليك وأنت تقطع البحر وخشية على الديوان من الهبوط الى الاعماق المظلمة فيقع في يد السمك قبل ان يصل الي فيصبح أول كتاب بشري في المكتبة البحرية الهائلة.
    لكن سعادة الرائع أنقذك وأنقذ الديوان وحمل عني القلق ووفر على السمك عناء القراءة لا سيما وأن الإنارة خافتة حقا هناك.
    محبتي

  2. فعلا لقد صورته واصبت. وليد ذلك العميق الذي يتمتع بفصاحة لغوية عميقة لا تغريه اللعبة اللغوية المستبدة ، رغم صعوبة الغوص في خيالته لكنه يمتعك بالمستوي الذي يصل اليه.
    ورغم خياله العميق الا انه يحاكي الواقع بقلب وطني مخلص يتحسس نبض الشارع ويولي له اهتمام واسع بكتاباته الاخري اللاشعرية ايضا.
    مقل في منشوراته تجنبا للاستعراض لكنه مركزا علاجاته لمداواة الجروح.
    شكرا لك سيد نزار لوصفك الواقعي والجميل للجميل وليد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق