جماليات

هذي عصاي، وهذا حجري

أعمال زكريا محمّد

     هذا هو عنوان الأعمال الشعرية، للشاعر الفلسطيني زكريا محمد، التي صدرت أخيراً، وهو عنوان إضافة إلى ما فيه من فتنة، فإنه يشير إلى سمة تكاد لا تخلو منها قصيدة من قصائد الشاعر، وهي طاقتها التأويليّة الكامنة، حتى إنه يمكن قول الكثير في تأويل العنوان ذاته.

      أعمال زكريا الشعرية صدرت عن دار راية للنشر، في جزئين، يضمان منجزه الشعري المفتوح على الغيب، وقد فرحت فعلاً، إذ جاء العنوان على غير العادة الجارية في هذا المضمار، متجاوزاً عن صفة “الكاملة”، فأعمال الشاعر لا تكتمل إلَّا إذا كفَّ عن الكتابة تماماً. والشاعر لا يختار أن يكفَّ عن كتابة الشعر، الشاعر ليس لديه القدرة على هجر هذه “الربّة” المستبدة، ربّة الشعر هي من يقرر أن يهجر ومتى يهجر، ولهذا أتفق مع زكريا في أن لا أعمال كاملة ما دام الشاعر يتنفس ويكتب، أو يتنفس ليكتب.

       طريق الشعر محفوفة دائماً بكمائن الدهشة، يمضي الشاعر حياته وهو ينصبها لنا فنقع فيها نحن دون أن نعرف الغاية من كل هذا ولا هو يعرف. وفي تراثنا شعراء قالوا الشعر (زكريا يضربه ضرباً على الكيبورد) وهم يسلمون الروح، وكان أشهرهم مالك بن الريب. ما أردت أن أقوله هنا، إن الاستغناء عن “الكاملة” في عنوان المختارات الموسعة لزكريا يحمل في ذاته وعداً بقصائد جديدة سوف ننتظرها بشغف ولنا أن نتمنى أن تكون بلا عدد ولا نهاية.

إن أعمال زكريا الشعرية، كما أوضح هو في مقدمته القصيرة، هي مختارات موسعة اشتملت على قصائد من مجموعاته الشعرية التسعة فضلاً عن قصيدة “يتيمة” بعنوان اعتذارية (… مهــداة إلى أختي… ظلت يتيمة ولم تدرج في أي من مجموعاتي الشعرية):

لم أكن فارساً أبداً ولا شجراً مثمراً

لم أخلف ظلالاً لكي يستظل الذين يحبونني.

      جاءت أعمال زكريا في جزئين اقتسما مملكته الشعرية، ومع أن التقسيم لم يأت حسب قوله وفق اعتبارات الشكل الشعري الخاصة بنتاجه وحدها، أي وفقاً

زكريا محمد

لمعيار الجدة والقدم، إلاَّ أنَّ الجزء الأول يضم مجموعاته الثلاثة الأخيرة: تمرة الغراب، زراوند وعلندى. وأما الجزء الثاني فقد اشتمل على المجموعات والقصائد التي تنتمي إلى شكله الشعري الأقدم، إلاَّ تلك القصائد من ديوانه المخضرم “كشتبان” والتي شكلت بداية لأسلوبه الحديث. ويضم هذا الجزء مختارات من المجموعات الست الباقية: كشتبان، أحجار البهت، ضربة شمس، الجواد يجتاز إسكدار، أشغال يدوية وقصائد أخيرة.

إنَّ حضور هذا العمل الواسع والمتنوع الذي يضم الأعمال الشعرية لشاعر من عيار زكريا محمد، في ضربة واحدة، هو حدث مهم لكل من أدركته الغواية، فهو عمل كبير، يغطي قرابة نصف قرن من الرحيل إلى الشعر والضرب في مجاهله، نصف قرن من عمر شاعر له روح حاج، قلق، مغامر، وباحث لا يقر له قرار. وفي حدود ما أعلم، فإن مثل هذا العمل يحدث للمرة الأولى، من شاعر ينتمي إلى جيل بقي رهينة ما يسمى “الشعراء الشبان”، رغم أن معظم شعرائه بلغ السبعين أو يكاد. وهو جيل ظل ملاحقاً بهذا الاسم الذي ينطوي، برغم ما فيه من “دلال”، على ملمح يشير إلى أن شعراءه يقيمون فوق “رصيف الشعر”، وأنهم يتلمسون خطاهم داخل دروبه الجانبية، على عكس جيل الرواد مثلاً أو جيل الستينيات الَّذين شقا للشعر طرقه الكبرى.

تمرة الغراب، المجموعة الأولى، وآخر مجموعة في اصدارات الشاعر. ومازلت أذكر كيف أن زكريا استفتى أصدقاءه على الفيس بوك في شأن غلافها. وفي الحقيقية أن المرور بتمرة الغراب إلى ما يليها لا يكون مر الكرام أبداً، فهذه المجموعة مكونة من مقطوعات تدور في افلاك شعرية عاصفة وساكنة، معتمة ومضيئة من الصور والرموز والحالات، لا يسمح المقام بتناولها هنا.  المقطوعة الأولى، في هذه المجموعة تدور حول “الضب”، وهي بلّورة سحرية لا تنجو العين من إشعاعها، ولعل هذا يقودنا إلى سؤال ضروري حول كيفية مقاربة عالم زكريا الشعري، كيف يمكن قراءة زكريا محمد؟ وهو سؤال مفتوح يمكن لقرائه أن يساهموا في الإجابة عليه.  وأما أنا فقد أردت أن أقدم قراءة لمقطوعة “الضب” التي تحتمل، حال غالبية مقطوعات الشاعر الكبير، أكثر من قراءة. وقبل هذا أود أن أرفع يدي تحيةً للشاعر من ضفة المنفى البعيد، وأهنئه بهذا العمل الكبير، وهو واقف بكلتا قدميه هناك على الضفة الأخرى للمنفى: منفى الوطن المنفي فينا.

الضب: أغنية المسخ ومسخ الأغنية 

“كل فــم في الصحراء يغني للماء إلاّ فم الضب”

يبادرنا الشاعر بسطر شعري، جملة تشبه وردة الصحراء البلورية الدفينة في باطن الرمل، تقريرية؛ بسيطة؛ واضحة بذاتها، التقطها الشاعر وبسطها أمامنا. لا جدال: هذه حقيقة في ذاتها. لكن الشاعر لا يقف عند حدود سطره المجاني البديع، كما قد يفعل شعراء الهايكو مثلاً، أو شعراء قصيدة السطر الواحد، بل مضى يمد خيوط نصه المضيء هذا بصبر واقتدار، نص كأنما وجده زكريا مكتوباً فوق صفحة رمال تحدِّقُ في مقلة البأس دون أن يطرف جفن واحد منهما، والشمس اللاهبة تسوطها لكنها لا تنحني لأجل قطرة ماء في جحيم العطش الباسط سلطانه على الكائنات. ولا يمكن لأحد أن يروي لنا ما حدث يومها، سوى شاعر يقف تحت شمس أريحا، ضارباً حروفه المرقونة على كيبورد حاسوبه:

“فهو لا يعطش ولا يرد الماء. ذلك أنه أصل الماء،”

حسناً، الضب هنا ينفي الماء: “لا يعطش ولا يرد الماء”، وهو بهذا يثبت ذاته، كل نفي هو إثبات مضمر، وكل إثبات يخفي داخل قميصه نفياً: الضب هو أصل الماء، “واسمه يضب الماء ضبا”. أي ان الماء يسيل هوناً من الاسم ذاته.

لم يسبق لأحد في تاريخ الشعر العربي أن قدم لنا معرفة عن الضب، منزهة عن الغرض هكذا، أصله وهويته قبل زكريا. فالضب بدايةً هو استعارة الماء الفذة. أليست كل استعارة نفياً يرفع الوجود عالياً ليُرى أكثر؟ أليست غياباً يعود الحضور بعده ممجداً ومحمولاً فوق كتفي ذلك الغياب؟

“وقبل ألف سنة كان الضب نجمة” تقول القصيدة. اذن لم يفرغ زكريا من قصة الضب بعد، مع أنه أعطاه من المجد ما يكفي لجعله واحداً من آلهة الصحراء الخالدين، ابن الرمال والشموس الملتهبة والغني عن الماء لأنها هو. زكريا لم يشأ ان يتفضل بذكر الضب عرضاً أو أن يتريث قليلاً وهو يتحدث عنه، في قصيدة تتسع له ولسواه من كائنات الشاعر المعدودة على أصابع اليد الواحدة والمقيمة في مقطوعاته العجائبية. لقد أراد ان ينقل إلينا أسطورة الضب كما وصلت اليه. والأسطورة كما نعلم هي حكاية سحيقة، وهي غالباً، ذات صلة بالمقدس: الخلق والمحرم والعقاب.

      الإنسان حيوان يعتاش على الأساطير وتعتاش هي عليه. ومن أقدر على صناعة الأساطير من الشاعر؟ الشاعر يصنع الأسطورة ليقرأ أسرار الوجود، أما رجل الدين فيحولها إلى أوثان يقوم على حراستها ويقايض البشر طمأنينة الإيمان بحرية الإبحار في الشك.

“وقبل ألف سنة كان الضب نجمة. وكانت حلقات ذيله الحرشفية أفلاكا. لكن الله غضب عليه ومسخهُ ضبا. لقد مُسخ الضب، ومُسخت أغنيته. أتســمعين يا نواة الحجر:

لقد مُسخ الضب، ومــن يومها أخفى نفســه في جحره…”.

هذا هو الضب وتلك هي أسطورة الضب كما رواها زكريا. أسطورة فاجعة حقا. ولا أدري لماذا أصابني الحزن وانا اقرأ مصير الضب: النجم المضيء الذي مسخه الله ضباً، لا يأبه لغياب الماء ولا ينتشي لحضوره، لكنه يذعر من رؤية كائنات لا تعرفه، لكنها تحاول افتراسه بلا تردد كلما وقعت عليه. أتذكر أن شعوراً كهذا أصابني عندما قرأت أسطورة برومثيوس، سارق النار الذي عاقبه زيوس بأن صلبه فوق صخرة على جبال القوقاز وسلط عليه نسراً ينهش كبده في النهار، لتلتئم جراحه في الليل فإذا طلع النهار عاد النسر لينهش كبده. وزكريا يستفظع المسخ. وهو يسائل نواة الحجر: “أتســمعين يا نواة الحجر”، مسقطاً علامة السؤال، ذلك أنه لا يسأل، بل يصرخ من الوطأة، صراخاً خالصاً من عاطفية تحاشى الشاعر الوقوع فيها، ولنتذكر أنه يلم يفرج إلاَّ أخيراً، عن قصيدة جميلة مهداة إلى أخته، فراراً من شبهة العاطفية، فهو غير قادر بالطبع، على التفجع كما فعل السياب (واحسرتاه، أواه)، قبل عقود طويلة مضت، كان الشعر فيها نهباً للقلق وتبدل الأشكال والأساليب.

 لقد أراد الشاعر هنا ان يشاطر أحداً عبء تلك الفظاعة التي لم يستطع أن يكتم أمرها في نفسه، فلم يجد غير قلب الحجر، ربما كناية عن تعذر الوصول إلى قلب الإنسان. والعلاقة الحميمة الغريبة، بين الشعراء وبين الحجر أمر معروف لنا. فالشاعر وثني في أعماقه، وأعني بالوثنية القدرة على الإبقاء وبصورة دائمة، على نوع غامض من اليقين بوجود روح يتخلل المكان ويتنفس في جسد الوجود. لا وجود للجمادات في يقين الشعراء، فهي بيوت تقيم فيها روح الوجود الخالد. العدم ذاته ليس إلاَّ شكلاً من أشكال ظهور ذلك الروح، العدم هو الوجود عندما يدير ظهره لنا. هكذا أفهم لحظة استدعاء الشاعر انتباه نواة الحجر: أتســمعين يا نواة الحجر.

لقد مُسخ الضب ومُسخت أغنيته إذن. تلك هي اللحظة العمياء التي تجمد عندها الحواس، لحظة الفاجعة المذهلة، الجرم الأبيد في عبثه المطلق. المسخ هو أقسى أشكال العنف وحدُّه الأقصى، المسخ ألَّا تكتفي بمحو الكينونة، ألَّا تدخلها في العدم فينتهي الأمر، بل أن تدخل العدم فيها، ليبدأ عمله، ليتولى ذلك الساخر الأزلي مهمته الشنيعة، لا أن يشطبها، بل يعيد كتابتها بأبجدية الزراية، يحيلها سخريةً، يقدمها طعاماً لوحش الخفة النهم، ويطلق يد العبث لتصنع بها ما تشاء. إنه لن يخرجها من فضاء المعنى، بل يزجرها إلى “ضده” السحيق، لا يقف بها عند حده الصفري، بل يلهو بدفعها بعيداً وعميقاً صوب “صفرية معنى” لا قاع لها، ترميه بدورها في هاوية من المعاني المقلوبة، غير متخيلةٍ، تدور كلها حول المحور ذاته: المسخ، الاغتراب النهائي عن الذات والعالم. صورة تتشكل دون سابق انذار، دفعة واحدة، وفق هوى اعتباطي، فظ، لا يمكن التنبؤ به، يقذف بالسمات في سعير الفوضى، ليطلع علينا بمخلوق شائه، شاردٍ، ينكر ذاته ويفر منها.

نحن كائنات جسدية في مبدئها، قبضة طين سوداء أولج الله فيها نوره فأضاءت محنةً؛ النور علم والعلم منزل من منازل المحنة؛ نفخة أولى أورثتنا لساناً يسبح بحمد “نعم” ويغني مجد “لا”. نحن جسد يغني. جسد يملك ذاته ولا يملكه أحد. الله يعلم هذا والشيطان أيضاً. نحن ساحة النزال بين ارادتين كلتاهما نحن، ولسنا ملكاً لأحد. نحن الرقصة الأبدية بين الحمد والمجد. وتلك هي محنتنا وشرط وجودنا. جسد وأغنية نحن. الكائنات كلها جسد وأغنية. إذا انتهك الجسد فرت عنادل الغناء.

ولهذا “اختفى الضب في جحره. اختفى النجم الذي لا يغني إلاَّ لذاته.”

“كل عبــد يغنــي لســيده إلاَّ الضــب. فليس له ســيد. الصحــراء أمه، والشمس الفظيعة خالته.”

الضب سيد ذاته وهو لا يغني لأحد سوى ذاته. ولهذا كان يجب أن يمسخ وتحبس أغنيته في حلقه. وها هو الضب لا يصرخ، لا يعوي ولا يغني. إنه يجهش بأصوات غامضة مثقلة باعتراض يائس لا يسمعه ولا يفهمه ذلك الجلف الجائع الذي يريد التهام نجم قديم نبيل لا يغني إلاَّ لذاته.

“وكل مخلوق يغنــي لســيده إلاَّ الشــعر. فهو يغنــي ذاته فقــط. يغني الحلقات الفلكية في ذيله. يغني للشــعاع الذي يخرج من عينه ومن فمه: أنا سهيل اليماني، وأنا شقيقه. أنا الماء، وأنا أصله.”

كل مخلوق يغني لسيده إلاَّ الشعر لا سيد له. ولهذا يغني ذاته. والالهة والملوك وحراس الحدود يكرهون الشعر، لأنه لا يريد شيئاً ولا يحتاج لشيء. الشعر طفل نفور لا يسمح ليد أن تمس جبينه العالي، نجمة مضيئة لا تسكن هذه الأرواح المعتمة، التي تريد أن تمسخه ضباً يختنق بأغنيته، لا يصرخ؛ لا يعوي؛ لا يغني.

وليد الهليس

شاعر من فلسطين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق