برصاصة واحدة، واحدة فقط أطلقها ضابط شرطة على صدر الفتى (نائل) في ضاحية نانتير شمال غربي باريس وأرداه قتيلاً، اشتعلت فرنسا منذ الثلاثاء وإلى هذا اليوم. وقد يضع هذا الحريق، رغم احتمال التمكّن من إخماده، فرنسا أمام حقائق جديدة مشبعة بمعان خطيرة ومصيرية مسكوت عنها، ولكن حضورها في تزايد مضطرد ويتقدم يوماً بعد يوم في المشهد السياسي – الثقافي، وتالياً الاجتماعي الفرنسي.
من الطبيعي أن تتصدر وقائع الاشتعال الفرنسي اليوميات الفرنسية الراهنة، حيث تتوالى بيانات الخسائر الكبرى (آلاف السيارات المحترقة ومئات المباني والمؤسسات المدمرة ومئات من الشباب المعتقل)، إضافة لبيانات الإجراءات الحكوميّة المتخذة والتي وإن استبعدت إلى الآن إقدام الرئيس ماكرون على إعلان حالة الطوارئ أسوة بما قام به الرئيس جاك شيراك أثناء اشتعال الضواحي الفرنسيّة في العام 2005، إلاَّ أنّها تشير إلى زجّ القوات الخاصة مع قوات الشرطة في عدد إجمالي وصل في هذه اللحظة إلى 45 ألف عنصر، في مواجهة الاحتجاجات التي يسميها بعض المعلقين (الانتفاضة)…؟
على أن شريط وقائع اللهيب الفرنسي، يتجه أكثر من أي وقت مضى نحو عناوين الهويّة والهجرة والإسلام ومستقبل فرنسا. وإذا كان عنوان (العنصريّة) حاضراً دائماً لتفسير مرجعيات الصدام وأسباب الاشتعال – وقد استخدم على نحوٍ فعّال في الولايات المتحدة غداة مقتل جورج فلويد في أيار 2020 في حادث مشابه – إلاَّ أنّه في الجبهة الفرنسية سيبدو قاصراً على نحوٍ مؤكد في مقاربة مختلف المعاني المزدحمة المتصاعدة مع اللهب ودخان الحرائق. وإذ تغري ظروف الحادثين المتشابهة بإجراء مقارنة تتجه نحو ملاحظة (العنصريّة) كمرجعيّة واحدة متسببة في وقوعهما، غير أنَّ الحادث الفرنسي يحمل في طياته معاني أكثر تعقيداً من المعاني الأخلاقية وما تنتجه الثقافة الليبرالية تحت عنوان حقوق الانسان ووجوب حماية هذه الحقوق باستصدار المزيد من القوانين القادرة على قمع العنصريّة وثقافتها.
حتى التحليلات التي تتكرر في الصحافة ووسائل الاعلام الفرنسيّة والقائمة على اعتبار الأزمة كامنة في ذلك التباين ما بين الضاحيّة ومركز المدينة، لم تعد مقنعة على النحو الذي يمكّن من اعتبارها القاعدة اللازمة والحتمية لإنشاء مقاربات فهم الأحداث ودوافعها ومآلها.
تسهب التحليلات التقليديّة في ملاحظة تباينات النمو ما بين الضواحي والمدن وتسرد نسب البطالة وحالة المدارس، وتشير إلى أن الحكومة الفرنسيّة أنفقت 12 مليار يورو منذ العام 2004 ، وستنفق مثلها حتى العام 2030 لردم هذه التباينات، كما تناقش في تفصيل قانوني مضمون المادة 435.1 من نظام الأمن الداخلي الذي يمنح قوات الشرطة الحق في استخدام السلاح فيما يتجاوز حالة الدفاع عن النفس، وهي المادة التي دخلت حيز التنفيذ ابتداءٍ من العام 2017، مع التركيز على الدور الرئيسي في ذلك كله الذي يقوم به وزير الداخليّة جيرالد دارمانان الذي يكثر الحديث عن طموحاته الرئاسيّة ومحاولته الدؤوبة لـ (تعمير) سيرة ذاتيّة تحاكي نشأته اليمينيّة.
في اختراق ومخالفة لمنهج هذه التحليلات التقليديّة، يستلفت الانتباه ما صدر عن أريك زمور، الكاتب والسياسي المعروف، حيث أشار إلى أنَّ هذه الأحداث ليست سوى الدخول في مرحلة الحرب الأهليّة. وهذا المصطلح (الحرب الأهليّة) كان قد ردده زمور سابقاً في أكثر من مناسبة، وخصوصاً مع إعلان نفسه مرشحاً للرئاسة الفرنسيّة في العام 2021، وقبل ذلك بمناسبات متعددة، حيث أكد أن فرنسا ستكون (لبنان آخر).
خاض أريك زمور الانتخابات الرئاسيّة منذ عام وحاز على 6.7 من الأصوات الفرنسيّة وذلك على برنامج كان قد طرحه مع إعلانه تأسيس (حزب الاسترداد) في محاكاة صريحة لمصطلح (حروب الاسترداد) التي تشير إلى تلك الحروب التي استمرت أكثر من 700 سنة في شبه الجزيرة الأيبيريّة وكان سقوط غرناطة في العام 1492 خاتمتها، وأدت ليس إلى سقوط الحكم الإسلامي تماماً وحسب، بل إلى (مسحَنة) المسلمين واليهود وطرد من لم يقبل منهم بذلك.
ينظر زمور إلى فرنسا بكونها تتعرض إلى عملية (استبدال كبير) سيؤدي بها إلى الأسلمة الكاملة، وهو المتحدر من أصول أمازيغيّة – يهوديّة يعتبر أنَّ هذا الاستبدال قد حدث في الجزائر مع (الاستعمار العربي)، يحذّر من أنه يحصل مرة أخرى في فرنسا التي (لم تقل كلمتها الأخيرة بعد – عنوان كتاب له)، وكلمتها تتأسس على القاعدة النابليونيّة العظيمة: (المستحيل ليس فرنسيّاً) كما يردد.
من المؤكد أنَّ نسبة الأصوات التي حاز عليها زمور في الانتخابات الرئاسيّة لا تشير إلى حضور قوي ومباشر لـ (الاسترداديين) في فرنسا، ولكن التأثيرات الرمزيّة وتسرّب المعاني التاريخيّة وسيطرة حالات الارتياب والخوف لم تعد خافية على أحد، وفي مجملها تدفع بالحكومة الفرنسيّة لاتخاذ إجراءات تتزايد شدتها يوماً بعد يوم خوفاً من الوصول إلى (لبنان آخر).
وقعت معركة بواتيه (بلاط الشهداء) في العام 732، بين الجيش الافرنجي / الفرنسي الذي يقوده تشارلز مارتل والجيش الأموي الإسلامي الذي يقوده عبد الرحمن الغافقي. انتهت بمقتل القائد الأموي وهزيمة جيشه هزيمة ساحقة. اعتبرت بواتيه المعركة التي أوقفت المد الإسلامي وحافظت على أوروبا المسيحيّة، وهي لذلك تعتبر حاسمة في سياق تاريخ العالم.
لكن، سقطت بواتيه / الجدار من زمان، والمسلمون يعيشون وراء الجدار كمواطنين أوروبيين في (الحديقة نفسها – حسب تسمية جوزيه بوريل الممثل الأعلى للسياسية الخارجيّة في الاتحاد الأوروبي، تسميته لأوروبا)، وفي اللحظة التي سيتم اعتبارهم من (أهل الغابة، والتسمية لبوريل أيضاً، وبالمناسبة هو اسباني) فإن (الحديقة) ستشتعل ولن يُعرف مَن سيسترد مِن مَن وماذا؟
الرماد في الأفق الفرنسي – الأوروبي.
مقالة ممتازة جدًا وتعكس هذا الواقع الأليم.
تحياتي
شكراً جزيلاً دكتورنا العزيز