الشرع الأعلى

الهلال الخصيب

خنجر الفتوحات والصحراء وضياع الحقيقة...!!

ملف

يتكون هذا الملف من:

1-مقدمة – نزار سلّوم.

2- مقال بعنوان: هل كانت بلاد الرافدين جزءاً من (سوريا الكبرى) أم العكس؟ – علاء اللامي.

3- مقال بعنوان: سوريا… الشام… سوراقيا: تعددت الأسماء والهويّة واحدة- أحمد أصفهاني.

4- مقال بعنوان: علاء اللامي وصراعه مع (الأسامي) – جورج يونان.

5- مقال بعنوان: رداً على أحمد أصفهاني: حول الفرق بين (سوريا) و(سوريا الكبرى) – علاء اللامي.

6- مقال بعنوان: سورية اسم بترجمات كثيرة – علي حميّة.

مقدمة

ننشر، فيما يلي، ملفاً من خمسة مقالات متتابعة، بدأها الباحث والكاتب علاء اللامي بمقال جاء بعنوان: هل كانت بلاد الرافدين جزءاً من (سوريا الكبرى) أم (العكس)؟. ثم تتابعت المقالات الأخرى الحوارية والتي شارك فيها كل من: أحمد أصفهاني، جورج يونان، علاء اللامي – مرة ثانية -، علي حمية.

نسجل في هذا التقديم الملاحظات التالية:

أولاً- صيغة السؤال التي طرحها الأستاذ اللامي، سيطرت منهجيّاً على فضاء المقالات، حتى وإن جاءت لتبيان ما يوحد ما بين (كائنين) تاريخيين وفق منطق السؤال.

ثانيّاً- لا يمكن اعتبار المقالات المنشورة (أبحاثاً)، بل هي مقالات، لبعضها، أو لبعض فقراتها سمات البحث، من حيث اللغة والتوثيق المرجعي. والواقع ليس مطلوباً منها ذلك في سياق الكتابة الصحفية. وبالتالي لا يمكن أن نشهر (العدة البحثية) الأكاديمية في وجه بعضها ولا نشهرها في مواجهتها كلها. فـ (المصطلحات) المستخدمة، غير موحدة في مضمونها بين الكتّاب، و (العبارات المرسلة، حسب تعبير اللامي)، لا يقتصر استخدامها عند كاتب دون الآخر، فلو أردنا التدقيق المنهجي لوقعنا على الكثير منها في مختلف المقالات.

ثالثاً- حتى وإن أغفل الأستاذ اللامي، الجهة التي تعتبر بلاد الرافدين جزءاً من (سوريا الكبرى)، غير أن الردود – المقالات – جاءت كلها من كتّاب ينتمون إلى الفكر السوري القومي الاجتماعي، وفي ذلك دلالة ألاّ (جهة أخرى)؟ اعتبرت نفسها معنية بما جاء في مقال الأستاذ اللامي. وعلى ذلك يكون الحوار الدائر بين جهتين، الأولى يعبّر عنها الأستاذ اللامي باعتباره (ماركسيّاً مستقلاً) والثانيّة يعبر عنها أحمد أصفهاني وجورج يونان وعلي حميّة باعتبارهم كتّاب من المدرسة السوريّة القوميّة الاجتماعيّة.

رابعاً-استخدم الأستاذ علاء اللامي مصطلح (سوريا الكبرى)، وحمّله مضمون مصطلح (سورية الطبيعية)، وقد انتبه علي حميّة إلى هذا الادغام بين المصطلحين، وبيّن ظروف ظهور مصطلحي – وفي الواقع المشروعين الذين اتخذا هذين المصطلحين عنواناً لهما – (سوريا الكبرى) و (الهلال الخصيب). وفي الوقت الذي تم فيه الاكتفاء بالإشارة إلى الجانب السياسي (الترويجي الأيديولوجي) – حسب اللامي وأصفهاني – لمصطلح (سوريا الكبرى)، فإن حميّة – محقّاً – عمل على نفيه واعتباره خارج قاموس ومنهج الفكر القومي الاجتماعي. فالمصطلح اعتمد كـعنوان لمشروع سياسي محدد من قبل الدوائر الانكليزيّة والملك الهاشمي عبدالله (الذي أشار إليه في العام 1946)، ويستهدف استعادة (الوعد الإنكليزي) للهاشميين بحكم مملكة عربية مطابقة لبلاد الشام، ذات إيقاع تاريخي تحت مسمّى (سوريا الكبرى). فيما مصطلح (سورية الطبيعية) يشير إلى ما عناه أنطون سعادة بـ (سورية) الممتدة من جبال البختياري شرقاً إلى البحر المتوسط غرباً ومن جبال طوروس شمالاً إلى قوس الصحراء العربية جنوباً. فلا تطابق بين المصطلحين، لا في دلالاتهما الجغرافية ولا في مضمونهما السياسي أو التاريخي، فضلاً عن صدورهما من مرجعيتين غير متقاطعتين بأي شكل من الأشكال.

خامساً- يأخذ بعض الكتّاب بمصطلح (سوراقيا) كحل مناسب لإشكالية (الاسم)، ومن هؤلاء الدكتورة صفيّة أنطون سعادة، التي تعتبر أن توصل سعادة إلى توضيح مسألة الحدود الشرقية وحسمها في العام 1947، والتي وفقها صارت بلاد ما بين النهرين كاملة ضمن إطار الأمة. إن ذلك يفترض على التوازي تعديلاً في اسم الأمة بالعودة إلى اسم (سوراقيا) الذي نحته سعادة نفسه في مناسبة سابقة، كما يشير علي حميّة.

سادساً- في سياق الاستعادة التاريخيّة تم التركيز على الامبراطوريّة الآشورية، انطلاقاً من أسبقية نشوء الدولة المركزية في ما بين النهرين من جهة، وبكونها المرجع التاريخي لاسم (سورية) من جهة مقابلة، وبرأينا، كان يُفترض الانتباه إلى الدولة السلوقيّة (312 – 64 ق.م) باعتبارها حالة متقدمة في الواقع التوحيدي، والتي حُكمت من عاصمتين أولاهما سلوقية على نهر دجلة (305 – 240 ق.م)، والثانية انطاكية على نهر العاصي (240 – 64 ق.م)، وربما هذه هي الحالة الفريدة لدولة مركزيّة على كامل الهلال الخصيب تكون عاصمتها مرة في (بلاد ما بين النهرين) ومرة في (بلاد الشام). في هذا الخصوص، وفي مقدمة الطبعة الرابعة للتعاليم والمبادئ في العام 1947. يقول سعادة: [منـذ أن انهار، بعامل الفتح الرومي (الروماني) النظام السوري السياسي والاجتماعي والـحـربي، الذي تطورت الـحيـاة السوريـة نحوه منذ القـدم وتـجلى في الدولة السورية السلوقية التي صارت إمبراطورية عظيمة، بعد توحدات سياسية سابقة أقـل متانـة وأسرع عطباً، تعرّض مصير سورية لتقلبات كثيرة في أجيـال عديدة كـان الفاعل الأقوى فيها دائماً إرادة الفاتـح الـجديد وسياسته، فجزئت البلاد ثم وحدت ثم جـزئت حتى ضـاعت حقيقتهـا وخـرجت دورة حيـاتها عن محـورها وتراكمـت على شخصيتهـا طبقات التاريخ السياسي كما تراكمت على مخلفاتها طبقات الأرض، وصار الباحث عن حقيقتها يحتاج إلى تنقيب دقيق واسع وإلى تـحرٍّ للتركيب الإتني والنفسي والوضـع الـجغرافي والتسلسل التاريخـي وإلى تـحريـر التآويـل الـمتعددة من الأغلاط التي بعدت عن الـحقيقة وغرضها.]

كان من شأن الانتباه للإمبراطورية السلوقية ودورها وموقعها في تاريخ سوريا، تحرير البحث منهجيّاً من ضغط السؤال الذي صاغه الأستاذ اللامي القائم على البحث في (الأسبقية).

سابعاً- لابدَّ من تأكيد حقيقة علمية / تاريخية، وهي أنَّ الأمم لا تولد كـ (مخلوق كامل) من (رحم) حاضر وجاهز… بل يتطور المجتمع وتكتمل فيه مختلف العوامل التي تجعله أمة في سياق حركته في التاريخ. ولذلك لم يتردد سعادة في وصف حركته باعتبارها إنشاءً للأمة السوريّة، حيث يتابع استكمالاً لقوله في الفقرة السابقة […وهذا العمل، لعمري، أشبه شيء بإنشاء الأمة السورية إنشاءً جديداً لأنه يعني بعثها من مدافن التاريخ وتأسيس حقيقتها تأسيساً واضحاً كاملاً لا يعود يشذّ عنها وعيها ولا يقوم على غيرها وجدانها- راجع مقدمة الطبعة الرابعة للتعاليم والمبادئ، عام 1947- نسخة إلكترونية – موقع مؤسسة سعادة للثقافة].

ثامناً- يشير الملف، بمقالاته، إلى نموذج حواري متقدم مع ملاحظة وجود منسوب (شخصاني) ولكنه متدنٍ، وغالباً غير مقصود. ولكن الملف يشير أيضاً، وبدرجة مهمّة، إلى أن الفكر السوري القومي الاجتماعي لا تزال أمامه تحديات جديّة لا يمكن تجاهلها، بل عليه العناية بها وخصوصاً في تقديم نفسه إلى النخب الفكرية والثقافية على اختلافها.

 

هل كانت بلاد الرافدين جزءاً من «سوريا الكبرى» أم العكس؟

علاء اللامي

باحث وكاتب من العراق

(إلى ذكرى د. يوسف متي قوزي، أستاذ اللغتين السريانية والعبرية في كلية اللغات ــ جامعة بغداد، الذي رحل عن عالمنا أخيراً)

يثير هذا السؤال تحفّظات تاريخية وجغرافية وأناسية كثيرة، فهو من جهة يدخل في دائرة المناكفات والخطابات السياسية الانفعالية وخصوصاً على مواقع الإعلام الرقمي والتواصل الاجتماعي، وهو من جهة أخرى يكتسب شرعية الطرح والمناقشة من منظور التحقّق المنهجي العلمي الأناسي والمناهج القريبة منه. وعلى هذا، لا يمكن لنا إلاَّ أن نقدم جواباً مركباً فنقول: لا العراق القديم «بلاد الرافدين» كان تابعاً أو امتداداً لـ»سوريا الكبرى» قبل الميلاد، إذ لا وجود لشيء اسمه «سوريا الكبرى» عهد ذاك، بل كانت هناك «بلاد الشام»، وقبلها «بلاد آرام» كما وردت في نقش الملك الأكدي نرام سين في القرن 23 ق.م، ثم في نص الملك الآشوري تجلات فلاصر الأول من القرن 13 ق.م وفي نص آخر لحفيده تجلات فلاصر الثالث في القرن الثامن ق.م، وهو الذي رحّل الآراميين من مناطق يسار دجلة إلى أعالي الفرات/ ص15- آرامية العهد القديم د. يوسف متي قوزي، ولا الشام كان تابعاً للعراق القديم إلاَّ في جزء منه يتداخل مع جغرافيا حوض الفرات الأعلى، غير أن هناك دون ريب تداخلاً وتمازجاً عميقَين بين تاريخ وجغرافيا وإثنوغرافيا البلدين والشعبين الشقيقين ضمن الصيرورة الأناسية والحضارية الكبرى لجغرافيا المشرق الجزيري «السامي» في عصور ما قبل الميلاد.

الدول المركزيّة ودويلات المدن
كانت بلاد الرافدين مهداً لظهور الدولة المركزية ذات السمات الإمبراطورية بفعل مميزات الوضع الهيدروليكي المائي ـــ ضمن عوامل أخرى ـــ للنهرين الكبيرين دجلة والفرات، المُتطلِّب لهذا النوع من الدول التي تنظم وتركز وتدير الجهد البشري لمقاومة كوارث الفيضانات والسيول المدمّرة المصاحبة لهذه البيئة الهيدروليكية وترويضها. وهذا ما كان يحدث دائماً في الحضارات الفيضية «النهرية» الأخرى في مصر والصين والهند، أما خصوصية إقليم الشام فتكمن في أنه طُبِعَ بطابع نشوء وزوال دويلات المدن المستقلة والمهدَّدة من الجارين الكبيرين المصري والرافداني المتصارعين على النفوذ الإقليمي طوال تاريخَيه القديم وحتى قيام الدولة الأموية والتي لم تستمر أكثر من ثمانية وثمانين عاماً، بسبب انعدام النهر الكبير الذي يجمع مفردات العِقد الشامي.
وجوهر ما تقوله الوقائع التاريخية والجغرافية هو أنَّ العراق عراق، والشام شام، والحجاز حجاز، ومصر مصر، والمغرب هو المغرب؛ وهذه هي الأقاليم الرئيسة العريقة المكوّنة للجغرافيا العربية والمتداخلة مع بعضها ضمن جدلية «الوحدة في التنوّع، والتنوّع في الوحدة» بعد ظهور الإسلام، والممتدّة على «الفَرْشَة الأنثروبولجية الواحدة/ كما نظَّر لها الراحل جمال حمدان» قبل وبعد الإسلام. مع ضرورة توخّي الانتباه إلى الفرق النوعي الشديد الأهمية بين الأنثروبولوجي ببعده الثقافي، والإثنيوغرافي بجوهره العرقي؛ فالأول – الأنثروبولجي – يقود إلى الوحدة الثقافية الحضارية ذات الجوهر الإنساني، والثاني – الإثنيوغرافي – تقوم عليه النزعة القومية العرقية، الأوروبية المنشأ، وذات الجوهر العنصري من النمط الألماني.
ثم تغيّر المشهد التاريخي والجغرافي في العصر الحديث أسماءً ومسمياتٍ، وولدت أسماء دول وأقطار عربية جديدة، متفرّعة عن هذه الأقاليم وبحدود موروثة من العهد الاستعماري الأوروبي، كما هي الحال في الإقليم الذي تحول إلى عدة دول مستقلة، نعني بلاد الشام الذي يضم اليوم دول سوريا ولبنان والأردن وفلسطين المحتلة؛ ودولاً أخرى جمعت ووحَّدت عدداً من هذه الأقاليم كما هي الحال في المملكة العربية السعودية التي ضمّت أقاليم نجد والحجاز والإحساء وعسير والدهناء ونجران في دولة واحدة، ونوع ثالث بقي كما هو تقريباً، إقليماً قديماً موحّداً قامت عليه دولة حديثة واحدة كما هي الحال في العراق ومصر واليمن.

اسم سوريا وجذوره
لنبدأ باسم «سوريا»؛ فمن المعروف للمتخصّصين وكثير غيرهم، أن كلمة «سوريا»، كاسم لإقليم جغرافي حديث، لم تدخل المعجم العربي القديم وتحلّ محل اسم «بلاد الشام» إلاَّ في العصر الحديث، فهي اشتقاق من اسم إمبراطورية آشوريا «آسوريا» الرافدانية، والتي امتدت حدودها في أقصى صعودها الإمبراطوري لتشمل بلاد فارس شرقاً، نزولاً إلى مدينة سوسة «شوش» عاصمة عيلام ذات الثقافة السومرية في جنوب إيران المعاصرة، وبلاد الشام كلها غرباً ومعها مصر لفترة قصيرة في عهد الملك أسرحدون في القرن السابع ق.م، وشمال الجزيرة العربية جنوباً، وبلاد الأناضول وأرمينيا شمالاً.
وبعد زوال الإمبراطورية الآشورية، وقيام الدولة الكلدانية «البابلية الحديثة» في جنوب بلاد الرافدين وعلى أنقاض آشور، ثم سقوط الكلدانية وبدء الاحتلال الفارسي الأخميني للعراق القديم عام 539 ق.م وصراعه وحروبه ضد الإغريق والرومان، وحتى حرب الفتح العربي الإسلامي في القرن السابع الميلادي، وعندها، وربما قبل سقوط الدولة الآشورية بقرن أو يزيد، صار هذا الاسم «آسوريا» يعني لدى الجغرافيين والمؤرّخين الرومان والإغريق – وليس لدى نظرائهم العرب – الجزء الغربي من الدولة الآشورية، وهو الجزء الذي يضم جزءاً من الشمال الغربي للعراق المعاصر والجزء الشرقي على امتداد نهر الفرات من سوريا الحالية، وبقي استعماله رومانياً وإغريقياً.
ولا علاقة لهذا لاسم سوريا بمملكة «أسروينا» الصغيرة والتي ظهرت في شمال بلاد ما بين النهرين بين نهاية القرن الثاني ق.م. وأوائل القرن الثالث الميلادي، وكان اسمها بالآشورية «أدما» وعاصمتها الرها وقد حكمتها سلالة الأباجرة العربية ولذلك ورد اسمها بالسريانية «عربايا»، وهي – كما يسجل الراحل يوسف متي قوزي – أول دولة مسيحية في التاريخ وقد سبقت تبنّي الدولة الرومانية للدين المسيحي بقرنين تقريباً، وكانت الرها ملاذاً آمناً للمسيحيين الأوائل الناجين من الإبادة الرومانية في عهد الإمبراطور نيرون.

تداخل إقليمي وتمازج أنثروبولوجيّ
نعلم من وثائق ومعطيات التاريخ والأركيولوجيا الحاضرة بقوة هنا، أن هذا الجزء من سوريا الحالية، وعلى امتداد نهر الفرات، كان جزءاً وامتداداً لدول بلاد الرافدين منذ بداية ظهور هذه الدول المركزية المتعاقبة، ومنها الدولة الآشورية، وكانت حدود بلاد الرافدين تصل إلى مدينة قرقميش على نهر الفرات في تركيا الحالية شمالاً، والتي عُثر فيها على آثار وكتابات مسمارية رافدينية، بل تمتد إلى أبعد من ذلك فتتعدّى مدينة حران، التي تقع حالياً جنوب شرق تركيا، عند منبع نهر البليخ، وهو أحد روافد نهر الفرات، وتتبع حالياً لمحافظة «أورفة» التركية.
وقد ظلّت مدن الفرات الأخرى على الشريط الفراتي بين مملكة مدينة ماري القريبة من بلدة البوكمال السورية القريبة من الحدود العراقية بمسافة 11 كم، وحتى ما بعد مدينة قرقميش وحران شمالاً، ظلت جزءاً من حضارة بلاد الرافدين ودولها تارة، أو أنها شهدت قيام دويلات المدن ذات اللغة والثقافة والحضارة الرافدانية تارة أخرى كما هي الحال في دولة مدينة أسروينا شمالاً وإبلا غرباً قرب بلدة سراقب في محافظة أدلب.
قد عُثر في هذه المدن – كما قلنا – على الكثير من الآثار الرافدانية ومكتبات كاملة باللغات الرافدانية السومرية فالأكدية فالآشورية مدوّنة بالخط المسماري، بما يؤكد وحدة النسيج الحضاري والأناسي لسكان هذه المنطقة مع الشعوب الرافدانية القديمة، فكيف يستقيم – والحالة هذه – أن يجعل البعضُ بلادَ الرافدين امتداداً أو تابعاً جغرافياً وحضارياً لـ «سوريا الكبرى» التي لم يكن لها وجود كياني أو حتى اصطلاحي عهد ذاك، ويحكم بعضهم بجرّة قلم وبعيداً عن العلم ومعطياته بأن هذه المناطق والمدن وبلاد الرافدين كلها هي جزء من «الحضارة السورية القديمة»، في حين أن ما نسميها اليوم بلاد الشام وحتى فلسطين جنوباً لم تخرج كلها من حالة دويلات المدن -أو المشيخات الأميرية بعبارة توماس طومسون – إلى الدولة المركزية ذات السمات الإمبراطورية إلا في العصر الأموي سنة 662 بعد الميلاد؟

الإمبراطورية الآشورية
فلنلقِ نظرة سريعة على جذورها وتاريخها وماهيتها وهويتها الأناسية الرافدانية البحتة، فهي واحدة من دول بلاد الرافدين المركزية الإمبراطورية أرضاً وشعباً وعاصمة. نشأت في شمال البلاد على نهر دجلة وليس على الفرات، وتوسّعت في الألفية الثانية ق.م. وامتدت شمالاً وغرباً إلى مدن نينوى ونمرود وخورسباد ثم امتدت لتشمل أقاليم الجنوب العراقي بعد الاستيلاء على بابل.
وقد مرّت بلاد آشور بأربعة عصور كما يسجل المؤرخ العراقي عامر سليمان:

الأول هو عصر التبعية لبلاد سومر وأكد طوال الألف الثالث قبل الميلاد، وكانت مدينة آشور أحد المراكز الإدارية المهمة التابعة للدولة الأكدية، وعُثر فيها وفي نينوى على آثار للنفوذ الأكدي السياسي والحضاري، منها زقورة للإله أنليل تحمل طابعاً أكدياً. والآشوريون كما يعتقد أغلب الباحثين والمؤرخين هم من الأكديين الذين قطنوا المنطقة الشمالية من حوض نهر دجلة، بعد هجرتهم من منطقة بابل خلال العهد الأكدي/ ص122 من كتاب «العراق في التاريخ.».

والعصر الثاني هو الآشوري القديم ويغطي الحقبة بين 2000 ق.م وحتى 1521 ق.م. وينقسم هذا العصر إلى ثلاث مراحل تنتهي ثالثتها باعتلاء بوزور آشور الثالث وبدء العصر الثالث والذي يسميه المؤرخون «الآشوري الوسيط»، الذي دام ستة قرون تقريباً وينتهي في سنة 911 ق.م. وفي هذا العصر بلغ التمازج الحضاري والأناسي بين الرافدانيين الشماليين الآشوريين والجنوبيين البابليين ذروته، وبرزت ملامح الدولة المركزية الرافدانية الإمبراطورية الموحَّدة، واكتملت في العصر الآشوري الرابع «الحديث»، وبلغت الإمبراطورية الآشورية فيه أوج نضجها واتساعها. وانتهى هذا العصر بسقوطها على أيدي البابليين الكلدانيين بزعامة نبوبلاصر وفتح عاصمتها آشور سنة 614 ق.م، وموقعها اليوم في قلعة ومدينة الشرقاط «آشور كات» أي «مدينة الذئاب»، 320 كم شمالي بغداد، وهي اليوم مدينة حية ودائرة إدارية «قضاء» تابع لمحافظة صلاح الدين العراقية.
في عام 853 ق.م، دارت معركة كركرا أو قرقورا بين الجيش الآشوري بقيادة الملك شلمنصر الثالث وجيش عرمرم مؤلف من مقاتلي دويلات ومشايخ مدن بلاد الشام، شارك فيه اثنا عشر ملكاً متحالفاً تحت قيادة ملك دمشق حدد عازر، في بلدة قرقور، وانتهت المعركة بانتصار الآشوريين وإخضاع جميع دول المدن في بلاد الشام حتى الحدود الجنوبية مع مصر.
وقاد الملك الآشوري أسرحدون بن سنحاريب حملتين لغزو مصر وإنهاء تدخلاتها في مناطق النفوذ الآشورية بفلسطين وعموم بلاد الشام ولوقف تحريض شعوب الإقليم ضد الآشوريين، وانتهت الحملة الأولى إلى الفشل سنة 674 ق.م، وهَزَمَ الفرعونُ النوبي طاهرقا الآشوريين، وفقاً للسجلات البابلية. ثم قاد أسرحدون حملة ثانية أكبر من السابقة سنة 676 ق.م، تُوجت بالانتصار الآشوري واحتلال مصر ودخول العاصمة الفرعونية منف «ممفيس» وهروب الفرعون طاهرقا جريحاً، وأُسِرَتْ عائلتُه الملكية، ولكن هذا الاحتلال الرافداني لمصر لم يدم طويلاً وانتهى بانسحاب الآشوريين بعد سنوات قليلة تحت ضغط المشاكل التي تعرّضت لها الإمبراطورية في موطنها شرقاً.
اختفت مملكة آشور كدولة وإمبراطورية توالى على حكمها اثنان وسبعون ملكاً، بعد أن تمّ غزوها وإسقاطها كما قلنا من قِبل أبناء عمومتهم الجنوبيين الكلدانيين حين زحف ملكهم نابو بلاصر، وأخضع آشور عام 614 ق.م، وآلَ حكم بلاد الرافدين ومناطق نفوذها إلى الكلدان الجنوبيين.

سوريا الكبرى وهم أم حقيقة؟
إن عبارة «سوريا الكبرى» مستحدثة، وليس لها أصل تاريخي مدوّن معروف حتى لدى من ابتكروا اسم سوريا من مؤرخين رومان أو إغريق، ولكنها واقعاً وعلى الأرض تعني بلاد الشام، وهناك باحثون يستعملون عبارة «سوريا الطبيعية أي بلاد الشام» وهي عبارة لا مأخذ عليها رغم أنها لا تضيف جديداً إلى «بلاد الشام» كاسم لإقليم شائع ومُطّرد الاستعمال. وتعني «سوريا» أحياناً كما في كتابات المؤرخ اليوناني هيرودوتس مجموع سوريا وفلسطين على اعتبار أن لبنان «الجبل» كان على الدوام جزءاً من سوريا ما بعد الرومان. وفي هذا السياق قد يكون من المفيد التذكير بأن بعض هذه المعطيات ليست قديمة ومغرقة في التاريخ بل هي جديدة وقريبة من عصرنا، فعلى سبيل المثال فإن لبنان الحالي هو كيانية جغراسياسية جديدة بكل معنى الكلمة، ليس لأنه كان جزءاً من سوريا فحسب، بل لأن لبنان كان اسماً منفصلاً حتى عن بيروت المدينة والميناء، ويعني «متصرفية جبل لبنان» وعاصمتها أو مركزها قرية «بعبدا» وهي كلمة آرامية تعني باللغة العربية «بيت العابد»، قبل أن يتوحدا في «لبنان الكبير» في فترة الانتداب الفرنسي وقد أعلن الجنرال غورو عن قيامه في الأول من أيلول /سبتمبر 1920.
أي أنّ لبنان أو «متصرفية جبل لبنان» وبيروت المدينة كليهما كانا جزءاً من جغرافية سوريا، وظلّ هذا المعطى حاضراً بقوة حتى نهاية القرن التاسع عشر كما سجّله الرحالة المصري أحمد أفندي سمير والذي وصفه مطولاً – كما ينقل الباحث تيسير خلف في مقالة حديثة له – بعد زيارته لبيروت سنة 1890، حيث «يحدثنا الرحالة المصري عن الوضع الإداري لبيروت وسعي البيروتيين الحثيث للانفصال إدارياً عن دمشق «وتقسيم ولاية سورية إلى ولايتين؛ الأولى ولاية الشام وقاعدتها دمشق، وواليها من الدرجة الأولى. وثانيتها بيروت وهي القاعدة، وواليها من الدرجة الثانية». ويضيف: «فلما أدرك أهل بيروت بعض آمالهم، وفاتهم من رغبة الانضمام إلى لبنان ويقصد متصرفية جبل لبنان.».

سوريا وفلسطين عند هيرودوتس
ورد اسم سوريا وفلسطين في مؤلفات المؤرخ والرحالة الإغريقي هيرودوتس في القرن الخامس قبل الميلاد، إذْ أشار إلى ما نسميها اليوم بلاد الشام باسم «سوريا»، وإلى جنوبها بـ»فلسطين» (Παλαιστινη پَلَيْسْتِينِيه)، وأحيانا بـ «فلسطين السورية» و سوريا الفلسطينية. ثم أطلق الرومان عليها بعد القضاء على التمرد اليهودي بقيادة بار كوخبا سنة 132م، ولاية فلسطين السورية (Provincia Syria Palestinae)، ما يدل على اضطراب المصطلح وعدم ثباته ورسوخه حتى لدى الإغريق واليونان.
ولكننا نجد في الكتابات ذات المنحى الترويجي السياسي والإيديولوجي في عصرنا ترويجاً وتكراراً وتوسيعاً لاستخدام عبارة «سوريا الكبرى»، وكأنّ هذه العبارة باتت مصطلحاً عربياً أو حتى أجنبياً شائعاً وموثوقاً، يتصف بما يسمى في لغة البحث العلمي بـ «الاطّراد والشيوع» أي الامتداد الاستعمالي لفترة طويلة في التاريخ ورقعة واسعة في الجغرافيا مثل اسم فلسطين الذي تضربه الباحثة إنغريد يلم كمثال بهذا الصدد/»ص 11 – الماضي العصي»؛ حيث يذهب بعضهم إلى القول إن مصطلح «سوريا الكبرى يشير إلى الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط وامتداده ليشمل بلاد الرافدين والكويت والأهواز وكامل الهلال الخصيب وصولاً إلى أجزاء من أرمينيا وجزيرة قبرص»، ناسبين هذا التحديد الجغرافي إلى المؤرخ الروماني پلينيوس سـِكوندوس (Plinius Secundus) من القرن الميلادي الأول، غير أن هذا الرأي يدخل في باب الدعاية السياسية والخطاب الإيديولوجي وليس في باب المنهجية البحثية العلمية الرصينة.
ولكن، وحتى بوجود توثيق دقيق، فهل يمكن لوجهة نظر مؤرخ روماني أو إغريقي واحد أن تكون حجة على التاريخ والجغرافيا العربيَّيْن، ويتم إهمال وطمس الاسم العربي الشائع والحي والمُطَّرد الاستعمال طوال قرون وقرون للإقليم وأعني «بلاد الشام»؟

بلاد الشام المضمون والجذور
ولكن ما معنى «شام»؟ تعني كلمة شام أو شآم الشمالَ، ويقابلها اليمنُ ومن معانيها اليمين والجنوب. ويذهب الباحث المصري أحمد عيد في كتابه «جغرافيا التوراة في جزيرة الفراعنة» إلى القول إنَّ شمال اليمن حصراً هو ما كان يُدعى الشام، ويبدو أن استعمال الاسم عُمّمَ لاحقاً ليعني كل ما هو شمال اليمن وجزيرة العرب غرباً، ولكنه لم يوثّق كلامه أو يسنده بدليل تاريخي أو لغوي أو أركيولوجي للأسف. وهناك معانٍ أخرى للاسم بعضها يربطه بسام بن نوح التوراتي أو بالشامات «جمع شامة»…، وهذه تفسيرات عشوائية لا يمكن الدفاع عنها علمياً، وعموماً فقد كان هذا الاسم رائجاً قبل الإسلام بزمن طويل كما نقرأ في الكتابات التاريخية والجغرافية القديمة بعكس كلمة «آسوريا» وسوريا التي لم ترد فيها أبداً.
خلاصة القول هي أن أسماء «آسوريا» و»سوريا» – وإلى درجة ما «سريان»- لم تَشِعْ وتطَّرد وتتكرس كعلم جغرافي للجزء الغربي من بلاد آشور إلاّ جزئياً وبعد زوال تأثير مملكة آشور من المشهد التاريخي، وهو لهذا السبب يكون «سوريا» مجرد اسم لا يحمل أية دلالات أناسية أو لغوية ذات علاقة بأصله إلاّ على سبيل الذكرى التاريخية والجوار الجغرافي، أما من حيث مطلقيه الرومان أو الإغريق فهم غزاة وغرباء عن المنطقة، غير أنه بعث حياً في العصر الحديث وحاملاً لبعض الدلالات الجغرافية ونفحة خفيفة من ذكرى الإمبراطورية الرافدانية القديمة «آشور» وصار اسماً جميلاً ومُلْهِماً للجمهورية العربية السورية بحدودها المعروفة وبيان استقلالها المُعْلَن في الثامن من آذار 1920، ومن حقّ الأشقاء السوريين أن يفخروا به.

——————————————-

مصدر المقال: الكاتب نفسه، كما أنه منشور في جريدة الأخبار، 5 تشرين ثاني 2021.

سوريا، الشام، سوراقيا

تعدّدت الأسماء والهُوية واحدة

أحمد أصفهاني

باحث وكاتب من لبنان

 

نشر الباحث العراقي علاء اللامي، مقالة بعنوان «هل كانت بلاد الرافدين جزءاً من «سوريا الكبرى» أم العكس؟» («الأخبار»، 5 / 11/ 2021)، عرض فيها وناقش مجموعة من المسائل التاريخية والجغرافية والبشرية. وبعض هذه المسائل له مدلولات سياسية، نجد أنفسنا معنيين بإبداء الرأي فيها من موقعنا كمؤمنين بالفكر السوري القومي الاجتماعي، وإطاره الجغرافي الأمة السورية. وقبل أي شيء آخر، لا بد لنا من تقديم الشكر للباحث اللامي لأنه فتح أبواب الحوار الرصين على مسألة شديدة الأهمية بما يخص مستقبل المنطقة. ونحن سنركز أساساً على التفاعل الحضاري بين المكوّنات السكانية على مدى قرون موغلة في القدم(1).

منذ السطر الأول، يحدد اللامي وجهة نظره بالقول: «يثير هذا السؤال تحفّظات تاريخية وجغرافية وأناسية كثيرة، فهو من جهة يدخل في دائرة المناكفات والخطابات السياسية الانفعالية وخصوصاً على مواقع الإعلام الرقمي والتواصل الاجتماعي، وهو من جهة أخرى يكتسب شرعية الطرح والمناقشة من منظور التحقّق المنهجي العلمي الأناسي…». ثم يعطينا الجواب الحاسم: «لا وجود لشيء اسمه «سوريا الكبرى» عهد ذاك (يقصد عصر الإمبراطوريات في بلاد الرافدين) بل كانت هناك «بلاد الشام»، وقبلها (بلاد آرام)…

وحتى لا يكون هناك أي مجال للمناكفات، نجد من الضروري طرح بعض الآراء التي نعتقد بأنها تغني الحوار الساعي إلى أقرب ما يكون من الحقيقة.

ضمّن الكاتب مقالته مسائل متنوعة، بعضها وثيق الصلة بالسؤال المطروح أعلاه وبعضها الآخر يلامسه من بعيد… لكنها جميعها تسعى إلى بلورة النتيجة التي يصل إليها: [خلاصة القول هي أن أسماء (آسوريا) و(سوريا) – وإلى درجة ما «سريان» – لم تَشِعْ وتطَّرد وتتكرس كعلم جغرافي للجزء الغربي من بلاد آشور إلا جزئياً وبعد زوال تأثير مملكة آشور من المشهد التاريخي، وهو لهذا السبب يكون «سوريا» مجرد اسم لا يحمل أية دلالات أناسية أو لغوية ذات علاقة بأصله إلا على سبيل الذكرى التاريخية والجوار الجغرافيٍ].

سنركز حوارنا على ثلاث نقاط أساسية، نعتقد بأنها مفيدة في السياق العام الذي عمل عليه الباحث اللامي:

النقطة الأولى ـ من الأمور المتعارف عليها إجمالاً أنه لا توجد حقائق نهائية مطلقة في مجال العلوم الإنسانية. إن دراسة التطور البشري ونشوء المجتمعات ستظل مشرّعة للمكتشفات والعلوم الحديثة التي قد تثبت أو تناقض ما كان العلماء السابقون قد توصلوا إليه. ولذلك فإن تباين النتائج في مسألة تاريخية أو اجتماعية لا يعني أن هذا على صواب وذاك على خطأ. وإذا كان القرآن «حمّال أوجه»، حسب تعبير علي بن أبي طالب، فماذا نقول عن الدراسات والأبحاث المختلفة التي تتناول الجماعات البشرية منذ فجر التاريخ حتى اليوم! ولذلك نحن ننطلق من المنظور الاجتماعي الذي يشكل العنصر الحيوي في قيام المتحدات، لنطرح سؤالاً يحظى بالأولوية وهو: هل قام الدليل على تفاعل حياتي اقتصادي ثقافي بين سوريا الشرقية وسوريا الغربية على مرّ العصور؟ (نحن نؤمن بالأمة السورية في بيئتها الطبيعية).

النقطة الثانية ــ أن أسماء الدول والشعوب والمناطق غير ثابتة بالمطلق. وهي قد تتغيّر حسب الظروف المرتبطة بالفتوحات والغزوات والهجرات البشرية. لكن الأكيد أن الأسماء الأولى جاءت من ملاحظة المظاهر الجغرافية الطبيعية: بلاد الرافدين، ما بين النهرين، الشام (شمال)، اليمن (يمين)، الهلال الخصيب، المغرب، المشرق، الجزيرة… وهكذا. ومع نشوء المجتمعات وقيام علاقات بين الجماعات المختلفة، تظهر أسماء أخرى تعبّر عن مزايا أو صفات، (من الأمثلة أن الإغريق أطلقوا اسم الفينيقيين على كنعانيي الساحل). وفي أحيان كثيرة تغيب في طيات التاريخ أصول الأسماء، فيحاول بعض المهتمين العثور على جذور لها بطريقة اصطناعية، (حسب التوراة جاء اسم بابل لأن الله بلبل ألسنة السكان)… وغير ذلك كثير!

فالأسماء ثانوية من حيث المبدأ، ولا ينتقص من قيمتها المعنوية أن تكون مجهولة المصدر أو أجنبية الابتكار. إن اسم سوريا تخفيف يوناني لكلمة أشوريا، وبلاد الرافدين ترجمة لكلمة يونانية تعني بين النهرين (لها جذر آرامي أيضاً). أما اسم العراق العربي فهو مبهم بين من يرجعه إلى مدينة أوروك السومرية وبين من يقول إنه فارسي ويعني الأرض المنخفضة. ولنسأل أنفسنا: هل كانت معرفة أصل كلمة «العراق» ستغيّر شيئاً في مشاعر بدر شاكر السياب وهو يتشوّق إلى موطنه: «الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام… حتى الظلام هناك أجمل فهو يحتضن العراق»؟ أو ما أنشده أدونيس في قصيدته «قالت الأرض»: (ها بلادي، كأن بغداد صارت / من ذرى الشام أو غدت لبنانا).

النقطة الثالثة ـ أن علم الآثار لم يقل كلمته النهائية بعد، خصوصاً في بلادنا. وهذا ما يشير إليه اللامي في مقالته: «نعلم من وثائق ومعطيات التاريخ والأركيولوجيا الحاضرة بقوة هنا، أن هذا الجزء من سوريا الحالية، وعلى امتداد نهر الفرات، كان جزءاً وامتداداً لدول بلاد الرافدين منذ بداية ظهور هذه الدول المركزية المتعاقبة، ومنها الدولة الآشورية (…). وقد ظلت مدن الفرات الأخرى على الشريط الفراتي بين مملكة مدينة ماري القريبة من بلدة البوكمال السورية القريبة من الحدود العراقية بمسافة 11 كم، وحتى ما بعد مدينة قرقميش وحران شمالاً، ظلت جزءاً من حضارة بلاد الرافدين ودولها تارة، أو أنها شهدت قيام دويلات المدن ذات اللغة والثقافة والحضارة الرافدانية تارة أخرى…». ونحن نرى أن الصورة أشمل من تلك المذكورة أعلاه. فقد أثبتت التنقيبات الآثارية خلال السنوات الخمسين الماضية أن الوحدة الحضارية والاجتماعية والاقتصادية لمنطقة الهلال الخصيب كانت أمراً واقعاً خصوصاً عبر بادية الشام التي كان يُعتقد أنها فصلت بين بلاد الرافدين وبلاد الشام في عصر الإمبراطوريات الآكادية والبابلية والأشورية. في مطلع عام 1993، أعلن الدكتور توماس هولاند الذي كان يرأس فريقاً للتنقيب في المناطق الشمالية الشرقية من الكيان الشامي، عن اكتشاف تمثال لحصان مدجّن عمره 4300 سنة، ما يثبت أن تدجين الخيل في الهلال الخصيب أقدم بكثير مما كان يُظن سابقاً، إذ كان المتعارف عليه حتى ذلك الوقت أن تدجين الخيل حصل قبل 3800 سنة في حين أن الكشف الجديد أرجعه إلى الوراء 500 سنة على الأقل.

لكن أهم ما صرّح به هولاند (جريدة «الحياة»، 5 كانون الثاني 1993) أن تل السويحات الذي كانت تجري فيه التنقيبات، وهو يقع إلى الشمال الشرقي من البلاد، (كان على ما يبدو مركزاً مهماً للتبادل التجاري بين الإمبراطورية الآكادية في الشرق ومدينة أيبلا الواقعة في الغرب).

وفي تشرين الثاني سنة 1993، أعلن علماء الآثار (جريدة «إندبندنت» البريطانية، 23 كانون الأول/ ديسمبر 1993) عن كشف مهم هو عبارة عن مدينة مجهولة تم العثور عليها في تل البيدر الذي يبعد عن دمشق بحوالى 500 كلم إلى الشمال الشرقي. وقدّر العلماء عمر المدينة بحوالى 4400 سنة. وعثروا فيها على أرشيف إداري ضخم يوضح العلاقات القديمة بين بلاد الرافدين وشرقي حوض البحر الأبيض المتوسط في تلك المرحلة الموغلة في القدم.

وأظهرت الألواح الطينية أن ثقافة هذه المدينة هي مزيج بين الثقافة السومرية من جنوب وادي الرافدين وثقافة مناطق شرقي المتوسط. وكانت الألواح منقوشة بالحرف المسماري، وهي تغطي الشؤون الإدارية والتجارية وتتضمن إشارات إلى العلاقات مع المدن الأخرى. كما كشفت الألواح عن أسماء مدن جديدة لم تكن معروفة لدى علماء التاريخ القديم والآثار من قبل. وبيّنت دراسة محتويات الألواح أن سكان هذه المدينة استخدموا تقويماً خاصاً بهم يختلف عن تقويم السومريين والمتوسطيين. وقال المنقب الدكتور مارك ليبو Marc Lebeau إن المدينة يمكن أن تُعتبر «الحلقة المفقودة» بين الحضارة السومرية ـ الآكادية في جنوب ما بين النهرين (الجنوب الشرقي) وحضارة أيبلا وشرقي المتوسط إلى الغرب. ولا يختلف الباحث اللامي معنا في هذه الناحية، حيث يقول: «غير أن هناك من دون ريب تداخلاً وتمازجاً عميقَين بين تاريخ وجغرافيا وإثنوغرافيا البلدين والشعبين الشقيقين (سوريا والعراق) ضمن الصيرورة الأناسية والحضارية الكبرى لجغرافيا المشرق الجزيري «السامي» في عصور ما قبل الميلاد». وبعد أن يؤكد «وحدة النسيج الحضاري والأناسي» لسكان بلاد الشام مع الشعوب الرافدانية القديمة، يكشف لنا عن المعضلة التي تؤرقه: (فكيف يستقيم – والحالة هذه – أن يجعل البعضُ بلادَ الرافدين امتداداً أو تابعاً جغرافياً وحضارياً لـ «سوريا الكبرى» التي لم يكن لها وجود كياني أو حتى اصطلاحي عهد ذاك. ويحكم بعضهم بجرّة قلم وبعيداً عن العلم ومعطياته بأن هذه المناطق والمدن وبلاد الرافدين كلها هي جزء من (الحضارة السورية القديمة)…)

وبغضّ النظر عن الجذور اللغوية لأسماء سوريا والعراق ولبنان وفلسطين، ناهيك عن مصر وليبيا والجزائر وقطر والجزيرة العربية… فإن شيوع الاستعمال هو الذي يرسخ الاسم في نهاية المطاف. وسيكون من الخطأ الاستناد فقط إلى ما صارت عليه «الدول» منذ مطلع القرن الماضي. فعندما يقول اللامي إن بعض الأقاليم «بقي كما هو تقريباً، إقليماً قديماً موحّداً قامت عليه دولة حديثة واحدة كما هي الحال في العراق ومصر واليمن»، فهو لا يذكر أن العراق كان يشمل في زمن ليس ببعيد المحمرة (الأحواز) والكويت… وهذا يعني أن دولة العراق الحالية لم «تبقَ كما هي تقريباً»، تماماً كما أن الدولة السورية الحالية لم «تبقَ كما هي» بعد فقدان كيليكيا والإسكندرون!

قد تكون عبارة «سوريا الكبرى» مستحدثة، كما يذكر اللامي، أو «ذات منحى ترويجي سياسي وإيديولوجي». ورأيه مصيب إذا تعاملنا معه من النواحي السياسية فقط. إلاَّ أن الاسم السوري متداول بأشكال عدة منذ آلاف السنين. ولا يُغيّر في هذه الحقيقة كون المؤرخين الإغريق والرومان هم الذين «ابتكروا اسم سوريا». ويبدو لنا أن اعتراض الباحث اللامي ينصبّ على مطلقي الاسم «الرومان أو الإغريق فهم غزاة وغرباء عن المنطقة»! لكنه يضيف قائلاً: «هناك باحثون يستعملون عبارة «سوريا الطبيعية أي بلاد الشام»، وهي عبارة لا مأخذ عليها رغم أنها لا تضيف جديداً إلى «بلاد الشام» كاسم لإقليم شائع ومُطّرد الاستعمال». ويعني هذا أن اللامي يتحفظ تجاه الجهة التي «ابتكرت» اسم سوريا، ويفضّل في المقابل الاسم العربي «بلاد الشام». وهو رأي خاضع للبحث من وجهات نظر متعددة!

أخيراً نعود إلى عنوان المقالة: «هل كانت بلاد الرافدين جزءاً من «سوريا الكبرى» أم العكس؟»، نحن نظن بأن صيغة السؤال وُضعت بهدف الرد على بعض «المناكفات». والمسألة برأينا ليست من هو الجزء ومن هو الأصل، وإنما هي التفاعل التاريخي بين الجماعات والدويلات في حيز جغرافي محدد. والذين يختارون هذا على ذاك، ستكون أحكامهم ناقصة أو خاطئة تجاه معرفة نواميس نشوء الأمم.

(1) استفدت من ملاحظات الدكتور سليم مجاعص ببعض النقاط. لكنني أتحمل مسؤولية الأفكار الواردة في هذه المقالة.

————————————–

مصدر المقال: الكاتب نفسه، كما تم نشره في جريدة الأخبار، 7 كانون أول 2021.

 

علاء اللامي وصراعُهُ مع (الأسامي)…!

د. جورج يونان

طبيب وكاتب

 

رداً على مقال الأستاذ علاء اللامي في صحيفة ” الأخبار” بتاريخ 5 تشرين الثاني 2021، تفضَّلْتَ بالقول: ” تعددت الأسماء والهوية واحدة”- راجع مقال أحمد أصفهاني – وأضيف: (مرتا… مرتا…إنَّكِ تهتمين بأمور كثيرة، وتضطربين! إنَّما المطلوبُ واحد).

ففي المقالٌ مغالطات تحتاج إلى رد، وقبل أن يُعلنَ عن رأيه بالموضوع كله، بدأ النقاش بشكل سؤال: ” هل كانت بلاد الرافدين جزءاً من “سورية الكبرى” أم العكس؟” أجاب عليه بأن لا العراق جزء من سورية الكبرى ولا هذه جزءٌ من العراق، مستشهداً بالتاريخ الذي يحلو له. ليصل إلى قوله: “العراق عراق، والشامُ شام، والحجاز حجاز، ومصر مصر والمغرب مغرب، وهذه هي الأقاليم الرئيسة العريقة المكوِّنة للجغرافيا العربية…)، ولم يذكر الخليج وكان جزءاً من المنظومة الرافيدية بضفتيه الشرقية والغربية حتى مضيق هرمز ولم يذكر الحجاز منطلق الرسالة المحمدية وقبيلتها قريش، القبيلة النبطيَّة الشامية التي كانت جسر الحياة بين الحجاز، والشام تاريخياً، وفكرياً، واقتصادياً. وكانت البتراء هي القبلة لأهل الحجاز.

لست مؤرخاً، ولكن لي بعض الاضطلاع على مؤلفاتٍ لمؤرخين معروفين كطه باقر وفراس السواح والمؤرخ اللغوي محمد بهجت قبيسي، لكن تناقض مفهومه للتاريخ وللجغرافيا، أدَّى به إلى ضياعٍ بين الأسماء المختلفة لمنطقة تميّزت بوحدة الحياة (اقتصاداً وبيئة ومناخاً وتاريخاً وثقافة) حيث كانت مهداً للحضارة الإنسانية بكلِّ عناصرها ومكوِّناتها فجعله يتجاهل وحدة الحياة هذه بين الناس على مدى عشرات القرون. ومقاله عَبَّر عن إقليمية يحمل لواءها بعض العراقيين ولا تختلف عن الإقليميات الثي ترفع رؤوسها في المنطقة اليوم.

وبالفعل، وكما تفضَّلْتَ، فـ”المسائل التي أثارها هي ذات مدلولات سياسية، لا علاقة لها بالتاريخ والجغرافيا والبشرية والتفاعل الحضاري بين المكونات السكانيَّة”. نعم ” أسماءُ الدولِ والشعوبِ والمناطق ثابتة بالمطلق، وهي قد تتغير بسبب الظروف المرتبطة بالفتوحات والغزوات والهجرات البشرية” ولكن هذا يجب ألَّا يخضع للمفهوم التوراتي لبابل، الذي يشبه ما عمله الأستاذ اللامي في بلبلة الأسماء.

وبالفعل فقد تناسى الأستاذ اللامي وليمة سايكس-بيكو عام 1916 على هذه الأرض-الذبيحة وما خلَّفتها من كيانات سياسية، وتناسى وعد بلفور عام 1917. حتى أنه لم يوردهما؟

1-العراق؟؟ يوم كانت بابل وحتى أيَّام عمر بن الخطاب أو المنصور أو غيرهم لم يكن العراقُ كعراق اليوم، إذ كان المنطقة الواقعة حول الرافدين جنوبي بغداد شاملة شرق الخليج وغربه حتى مضيق هرمز، ويمتدُّ غرباً فوق الصحراء المحاذية التي كانت مسكناً للعمالقة العراقيين.

2الشام، وهي المنطقة التي تقع غرب الفرات إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، وتمتدُّ من الجبال الشمالية إلى آخر حبة في رمال سيناء، واسم الشام مشتقٌ من كلمة شمال، من الواقف في الحجاز بموازاة ما على يمينه أي اليمن. أمَّا عن اسم “سام” فهو ابتكارٌ توراتي لم يظهر أيُّ أثرٍ له في كلِّ الاكتشافات الأثرية الحديثة. وفي هذا الخصوص، وفي كتابه ” العرب قبل الإسلام، يقولً المؤرخ جرجي زيدان: وقَلَّدَ العربُ اليهودَ وغيرهم في كثيرٍ من طرق العِلْمِ، فاقتبسوا منهم ردَّ كلَّ أمَّةٍ إلى أبٍ من آباء التوراة…”(ص: 17)

3-الجزيرة، التي تعترف بوجودها كل المدونات العربية والإسلامية وتمتد شرقاً من جبال زاغروس إلى الضفة الشرقية لنهر الفرات حيث تخوم حلب، ومن بغداد جنوباً وما بين النهرين إلى أعلى منابعهما شمالاً، وكانت مهداً للحضارة الأشورية، وللعنفوان الحمداني ضد الغزوات الرومانية، وحيث كانت “أورفة” (التي سمَّاها أرضاً تركيَّة وكانت ديار بكر (نسبةً لقبيلة بكر) وحيث كانت ماردين وطور عابدين . وحيثّ لهجة سكان دير الزور هي نفس لهجة سكان الموصل-نينوى.

تاريخياً، نعم بلاد الرافدين هي مهد الحضارة التي ظهرت في الطرف الشرقي للهلال الخصيب بدءاً بـ “حضارة العُبيد” حيث ظهرت اللغة لأول مرة منذ سبعة آلاف سنة، والتي منها جاءت اللهجات العدنانية والآرامية والنبطية والتدمرية والحميرية (راجع كتاب “حضارة واحدة لا حضارات” وكتاب “ملامح في فقه اللهجات العربيات” للمؤرخ اللغوي محمد بهجت قبيسي)، وامتدت هذه الحضارة بالصروح البابلية ومن ضمنها الكنعانية المشرقية المتمثِّلة بدولة حمورابي.

ومن وسط هذا الهلال ظهرت الحضارة الآشورية وحضارة ماري وتدمر والبتراء، أما الطرف الغربي فقد كان مسرحاً لحضارة الفرع الغربي الكنعاني، ولحضارة إبلا.

نعم، حاليَّاً، العراق عراقٌ بلا الخليج، والشامُ شامٌ بلا العراق، ولبنانُ لبنانٌ بلا الشام، والأردنُ أردنٌ بلا الحجاز، ومصرُ مصرٌ بلا السودان، ومراكش مغربٍ بلا المغرب وبئس الحال!

فالكيانات السياسية التي يتحدث عنها اللامي هي من مخلفات سايكس-بيكو ومن مؤتمر سيفر عام 1920 وما تلاه في لوزان عام 1922-1923 ومن الباخرة كوينسي في 14 شباط 1945، أما الحضارة فتعرف الأرض التي قامت عليها مهما اخترع الأستاذ اللامي من أسماء. مرةً أخرى ” مرتا… مرتا…إنَّكِ تهتمين بأمور كثيرة، وتضطربين! إنَّما المطلوبُ واحد” والواحدُ هو: وحدة الحياة بين الناس.

————————————-

مصدر المقال: الصفحة الشخصيّة للدكتور جورج يونان / فيسبوك. وهو موجّه بصيغة رسالة إلى الأمين أحمد أصفهاني.

رداً على أحمد أصفهاني:

حول الفرق بين “سوريا” و”سوريا الكبرى”

علاء اللامي

باحث وكاتب من العراق

بالإشارة إلى مقالة الكاتب أحمد أصفهاني تحت عنوان “حوار مع علاء اللامي… سوريا، الشام، سوراقيا: تعدّدت الأسماء والهُوية واحدة” المنشورة في “الأخبار عدد 7 كانون الأول 2021″، أود تسجيل الآتي:

*أشكر الكاتب على اهتمامه بما نشرت، والتكرم بالتعليق عليه بما يعزز لغة الحوار النقدي الفكري الرصين في ميدان التاريخ والعلوم اللصيقة به لمقاربة حقائق التاريخ والجغرافيا والحياة. تلك الحقائق النسبية بطبيعتها والتي لا يمكن لأحد أن يحتكر النطق باسمها أو ادعاء تمثيلها، شخصاً كان أم جهة حزبية أو أكاديمية في عصرنا. وآمل أن تكون ملاحظاتي التعقيبية هذه، تعبيراً عن الاحترام لكاتب الرد على مبادرته وتطويراً لقناعاتنا المتقاربة أو المتباعدة على طريق تلك المقاربة المأمولة بين المتحاورين.

*أعتقد أن الكتابة والتأليف المنهجي العلمي في أبواب العلوم الإنسانية وخاصة تلك التي تتواشج وتمتزج قليلاً أو كثيراً مع بعض العلوم التجريبية – المختبرية – كعلم الآثار “الإركيولوجيا” وعلم الإناسة “الأنثروبولوجيا”، تراكمية واحتمالية ومتسائلة، تنأى نسبياً عن الجزم والقطع في أمور التاريخ القديم. سبب ذلك هو أننا لا نملك من هذا التاريخ إلاَّ القراءة الاحتمالية للذكريات والسرديات المدونة عن أحداثه واللقى الأثرية إن وجدت. هذا ما أشرت إليه في بداية مقالتي وكرره مقتبساً كاتب الرد بقولي “يثير هذا السؤال تحفّظات تاريخية وجغرافية وأناسية كثيرة، فهو من جهة يدخل في دائرة المناكفات والخطابات السياسية الانفعالية وخصوصاً على مواقع الإعلام الرقمي والتواصل الاجتماعي، وهو من جهة أخرى يكتسب شرعية الطرح والمناقشة من منظور التحقّق المنهجي العلمي الإناسي والمناهج القريبة منه”.

*الواقع فقد جاءت مقالة السيد أصفهاني – أمين الحزب القومي الاجتماعي السوري – أهدأ وأرصن كثيراً من مقالة متشنجة أخرى نشرت على موقع الحزب بعنوان “علاء اللّامي وصراعُهُ مع الأسامي” بقلم جورج يونان، أراد بها كاتبها استكمال مقالة أصفهاني كما كتب، ولكنه اشتط كثيرا وشخصن الحوار فاتهمني بتبني الفكرة “الإقليمية” واعتبر الموضوع صراعاً بين علاء اللامي و”الأسامي”، معتبراً أن “الكيانات السّياسيّة الّتي يتحدّث عنها اللّامي هي من مخلفّات سايكس – بيكو ومؤتمر سيفر ومعاهدة لوزان…إلخ”. والواقع، هو أنني لم أتحدث عن هذه الكيانات، بل عن أسماء الأقاليم العربية كما وردت وترسخت في الجغرافيا العربية الإسلامية القديمة، وهي العراق والشام والحجاز واليمن ومصر والمغرب، ولكن يبدو أن الكاتب يجهل الفرق بين هذه المصطلحات القديمة الراسخة وبين مصطلحات سايكس بيكو القطرية من قبيل “سوريا ولبنان…إلخ “. لستُ بصدد الخوض ما سميته “دائرة المناكفات والخطابات السياسية الانفعالية” ولهذا سأكتفي بهذا التوضيح للتفريق الاصطلاحي بين الشام وما شابهه، وسوريا وما ماثلها، وأعود الى رد أصفهاني:

*أبدأ بالتعليق على عبارة وردت في عنوان المقالة التعقيبية وهي “تعدّدت الأسماء والهُوية واحدة”، فأقول: جوهر ما أردتُ قوله في مقالتي هو أن “هذه هي الأقاليم الرئيسة العريقة المكوّنة للجغرافيا العربية والمتداخلة مع بعضها – تندرج – ضمن جدلية «الوحدة في التنوّع، والتنوّع في الوحدة» بعد ظهور الإسلام، والممتدّة على “الفَرْشَة الأنثروبولجية الواحدة/ كما نظَّر لها الراحل جمال حمدان” قبل وبعد الإسلام. مع ضرورة توخّي الانتباه إلى الفرق النوعي الشديد الأهمية بين الإنثروبولوجي ببعده الثقافي، والإثنوغرافي بجوهره العرقي؛ فالأول – الإنثروبولجي – يقود إلى الوحدة الثقافية الحضارية ذات الجوهر الإنساني، والثاني – الإثنوغرافي – تقوم عليه النزعة القومية العرقية، الأوروبية المنشأ، وذات الجوهر العنصري من النمط الألماني”. من الواضح أن الهدف الجوهري لرد السيد أصفهاني هو أنه يريد أن ينتزع منا اعترافاً بالهوية الواحدة الصماء والمنجزة والكاملة بين مجتمعات عربية معاصرة، من خارج نطاق جدل “الوحدة في التنوع والتنوع في الوحدة” التي لا ترفض الوحدة الهوياتية وفق مفهوم التنوع، والتنوع في إطار الوحدة الانثروبولوجية الثقافية غير العرقية الإثنوغرافية، فهذا النوع من فرض الهويات والقسر الفوقي انتهى عملياً إلى الفشل الذريع نظرياً وعملياً وتحول في حالة معينة إلى عداء مستحكم بين بلدين عربيين يحكمها الحزب القومي المنادي بالوحدة العربية نفسه، ولا أظن أن النسخ المشابهة من هذا الفرض والقسر الهوياتي سينتهي نهاية مختلفة!

*قلت -قبل قليل – إنَّ المقاربات التأليفية والأحكام والفرضيات المبّرْهَن عليها في العلوم المذكورة احتمالية وترجيحية وتراكمية، لا مكان فيها للقطع والجزم والبت. وهي لا تحتمل مفردات من قبيل “يجب وينبغي وإطلاقاً وأبداً”، بل لأخرى من قبيل “ربما وقد ويحتمل والأرجح وأغلب الظن…إلخ”. وبعبارة الكاتب الموفقة “لا توجد حقائق نهائية مطلقة في مجال العلوم الإنسانية”، ولكن هذا الحكم بحد ذاته قطعي “لا توجد”، وهو ينطبق على المتحدث والرّاد عليه، وبناء على ذلك، فلا يمكن تجريد صاحب الفكرة أو الاستنتاج النظري من حقه في الدفاع عن فكرته أو الاستنتاج الذي توصل إليه بالدليل الاستنباطي أو التحليلي أو المادي الآثاري.

لقد نجح الكاتب في الوصول إلى جوهر ما كتبتُهُ في مقالتي ولخَّصَهُ هو في رده، وهو قولي “خلاصة القول هي أن أسماء “آسوريا” و”سوريا” – وإلى درجة ما “سريان” – لم تَشِعْ وتطَّرد وتتكرس كعلم جغرافي للجزء الغربي من بلاد آشور إلاّ جزئياً وبعد زوال تأثير مملكة آشور من المشهد التاريخي، وهو لهذا السبب يكون “سوريا” مجرد اسم لا يحمل أية دلالات أناسية أو لغوية ذات علاقة بأصله إلاّ على سبيل الذكرى التاريخية والجوار الجغرافي…”، فهل رد الكاتب وفند هذه الفكرة بالدليل؟ أعني هل أثبت لنا “سوريا الكبرى” مصطلحاً جغرافياً تأريخيا كانت موجودة قديما، وأقدم مما ذكرتُهُ؟

*لقد كتب جملة مرسلة في موضع آخر من مقالته ذات صلة بما نحن بصدد، فقال فيها “قد تكون عبارة «سوريا الكبرى» مستحدثة، كما يذكر اللامي، أو «ذات منحى ترويجي سياسي وإيديولوجي». ورأيه مصيب إذا تعاملنا معه من النواحي السياسية فقط. إلا أن الاسم السوري متداول بأشكال عدة منذ آلاف السنين”. هنا نضع اليد على ترجيح الكاتب لصحة ما قلناه عن أن مصطلح “سوريا الكبرى” مستحدث أي أنه ليس قديماً وضارباً في التاريخ، ولكنه انتقل من هذه الفكرة قبل التدليل على صحة ما يقول إلى أخرى لا علاقة مباشرة لها بها فأضاف “ولكن الاسم السوري موجود منذ آلاف السنين” بمعنى أنه يهمل الفصل الذي أردت تبينه بين ” سوريا” و ” سوريا الكبرى” وهما مصطلحان مختلفان جوهراً ووظيفة. ثم هل أفلح الكاتب في تأكيد صحة قوله السابق؟

هنا، أتساءل: هل يمكن أو يجوز لكاتب في التاريخ والإناسة والآثاريات أن يقول عبارة مرسلة في موضع البرهنة والتحديد الكرونولوجي “التزميني” من قبيل “منذ آلاف السنين” دون أن يحدد، منذ كم من السنوات أو العقود أو القرون، ويقدم الدليل الحاسم أو الاحتمالي على ما يقول؟ وثانياً فأنا لم أنكر وجود اسم “سوريا”، بل حاولت أن أبين جذره اللغوي وسياق ظهوره وتطوره التاريخي بما توفر – حتى الآن – من أدلة ومنقولات الآراء، كما حاولت أن أفرِّق بينه وبين مصطلح سياسي حزبي آخر هو “سوريا الكبرى” التي تضم – من وجهة نظر القائلين به – بلاد الرافدين وصولاً إلى الكويت والأهواز شرقاً إلى قبرص غربا. وحين يشخصن أصفهاني الحوار، ويعتبر (أن علاء اللامي يعاني من “معضلة تؤرقه” وهي جعل بلاد الرافدين تابعة لإقليم اشتق اسمه من إحدى الدول الإمبراطورية التي نشأت فيه)، فهو بذلك يشي بالمعضلة الحقيقية التي يعاني هو منها، والتي جعلته يعتبر بلاد الرافدين هي سوريا الشرقية مقابل سوريا الغربية التي هي “سوريا الحالية” وذلك بقوله (هل قام الدليل على تفاعل حياتي اقتصادي ثقافي بين سوريا الشرقية وسوريا الغربية على مرّ العصور؟ نحن نؤمن بالأمة السورية في بيئتها الطبيعية).

*يقول الكاتب “فعندما يقول اللامي إن بعض الأقاليم “بقي كما هو تقريباً، إقليماً قديماً موحّداً قامت عليه دولة حديثة واحدة كما هي الحال في العراق ومصر واليمن”، فهو لا يذكر أن العراق كان يشمل في زمن ليس ببعيد المحمرة (الأحواز) والكويت… وهذا يعني أن دولة العراق الحالية لم “تبقَ كما هي تقريباً”). أعتقد أن سبب الِّلبس هنا، هو أن الكاتب أسقط من قراءته كلمة “تقريبا”، فالواقع أن هذه الكلمة تعني أن “العراق بقي كما كان تاريخياً مع بعض الاستثناءات في جغرافيته” التي تفيدنا بها كلمة “تقريبا”، ولولا وجود هذه الكلمة لكان الحكم كاملاً وتاماً كما كان في العصر الأكدي أو الآشوري أو الكلداني أو العباسي وهو ما لم يرد في الفقرة.

*يقول الكاتب “فالأسماء ثانوية من حيث المبدأ، ولا ينتقص من قيمتها المعنوية أن تكون مجهولة المصدر أو أجنبية الابتكار. إن اسم سوريا تخفيف يوناني لكلمة أشوريا، وبلاد الرافدين ترجمة لكلمة يونانية تعني بين النهرين (لها جذر آرامي أيضاً)”. هنا يمكن الإداء بمعلومتين:

*الأولى، هي أن بلاد الرافدين ليست ترجمة للكلمة إغريقية “متسيوبوتاميا” في اعتقاد العديد من الباحثين وأنا من بينهم، إنما الأرجح أن تكون الكلمة الإغريقية هي ترجمة لاسم بين نهرين / بت نهرين وبالآرامية (ܒܝܬ ܢܗܪܝܢ)، وهذا ما أشار إليه الكاتب بعبارة “لها جذر آرامي” فالآرامي أقدم تأريخياً من الإغريقي. وثانياً، قد تكون أسماء الأعلام شيئاً ثانوياً في المقالة السياسية والبيان الحزبي ولكنها ليست كذلك في علوم الإناسة والآثاريات واللاهوت واللسانيات فهي هنا أمور غاية في الأهمية، وتنبني عليها فرضيات ونظريات كبرى فلا يمكن النظر إلى هذه الأمور نظرة عاطفية أخلاقوية تركز على الناحية المعنوية، انتقاصاً وتصعيداً، بل علمية منهجية صارمة.

*أختم بتكرار الفقرة التي قال فيها الكاتب “”قد تكون عبارة «سوريا الكبرى» مستحدثة، كما يذكر اللامي، أو «ذات منحى ترويجي سياسي وإيديولوجي». ورأيه مصيب إذا تعاملنا معه من النواحي السياسية فقط. إلا أن الاسم السوري متداول بأشكال عدة منذ آلاف السنين”، فأقول إن هذه العبارة تحسم جانباً مهما من النقاش في مفصل مهم منه حاولت التركيز عليه أكثر من غيره وهو أن مصطلح “سوريا الكبرى” سياسي مستحدث وذو منحى ترويجي سياسي وأيديولوجي، ويسرني أن يتفق كاتب الرد معي جزئياً، أما القضايا المتفرعة من النقاش فقد وضحت فيها رأيي بشكل أمل أن يكون وافياً… أكرر الشكر والامتنان للسيد أصفهاني على اهتمامه وتعقيبه.

——————————————

مصدر المقال: الكاتب نفسه، كما أنه منشور في جريدة الأخبار،21 كانون أول 2021

إلى علاء اللامي وأحمد أصفهاني

سورية… اسم بترجمات كثيرة

د. علي حميّة

كاتب وأستاذ جامعي

استوحيت عنوان مقالتي من كتاب المؤرّخ الراحل كمال الصليبي «بيت بمنازل كثيرة» الذي يختصر فيه نظرته إلى لبنان بوصفه – على تعدّد منازله – بيت واحد، وأن الكثرة أو التعدّد دليل غنى لا ضعف! وعليه، فإن سورية، على الرغم من تعدّد الترجمات أو التفسيرات التي أعطيت للاسم، تبقى، بالنسبة لي، بيئة جغرافية واحدة، ولا يُضيرها أن يكون اسمها سورية الكبرى، مثلاً، أو سوراقية أو الهلال الخصيب… ألخ.

-1-

على الرّغم من أنّ الصديقَين علاء اللّامي وأحمد أصفهاني لم يخلصا، في حوارهما، على صفحات «الأخبار»، إلى رأي واحد حول الفرق بين سورية أو سوراقيا، وسورية الكبرى أو الهلال الخصيب، ومدلول كل اسم من هذه الأسماء وعلاقتها بعضها ببعض، فقد رأيت، تصويباً للنقاش، أن أبسط، هنا، للجامع الموحّد بين هذه الأسماء ومدلولاتها، لا المفرّق بينها، لاعتقادي أن تقديم الجامع على المفرّق قد يُذلّل بعض الصعوبات ويجترح إجابات.
في الحوار الجاري، منذ فترة، حول اسم سورية والسوريّين، وكانت لي أكثر من مساهمة في الموضوع، سأنطلق من فرضية أن سوراقية (وهي تسمية حديثة لسورية تضمّ العراق، أيضاً) التي تشتمل على «منطقتَي» الشام والعراق والأراضي المغتصبة من قبل آل سعود في الشرق وبني عثمان في الشمال والفرس في الشرق (الأحواز / عربستان) والمصريّين في الجنوب (سيناء) شكّلت، على الدوام، وحدة جغرافية – زراعية – اقتصادية – استراتيجية، على الرغم من التجزئة السياسيّة التي فكّكت، ولا تزال تفكّك أوصالها، والتمزّق الاجتماعي (الطائفي والإتني) الذي قصم، ولا يزال يقصم، ظهرها، والتخلّف الاقتصادي والثقافي الذي استبدّ، ولا يزال يستبد بها منذ عقود.
وسأحاول الإجابة عن مجموعة من الأسئلة التي ما انفكت تقضّ مضاجع كثيرين من أبناء البلاد، ألا وهي: هل سورية أو سوراقية أو بلاد المشرق السوري، كما يحلو للبعض تسميتها، هل هي فسيفساء عصبيّات وأعراق أم متحدّ اجتماعي متجانس؟ بقايا شعوب منحطّة أم شعب واحد؟ مجتمع اصطناعي أم مجتمع طبيعي؟ شتات عمران كما يراها ويتنبأ لها الجهلة والمرتبطون بالخارج أم وحدة حياة كما ينظر إليها أبناؤها المتمسّكون بحقائق الجغرافية والتاريخ؟
من نافلة القول أن الجغرافيّين والمؤرخين وعلماء الأنتروبولوجيا والاجتماع هم ألصق الناس بقضايا الجماعات البشرية، في نشوئها وتطورها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي، ولكنهم، مع ذلك، ينقسمون في ما بينهم تبعاً لمناهجهم العلمية ومدارسهم ونظرياتهم، فيصيبون أحياناً في أحكامهم كما يخطئون أيضاً، وتقع الأوساط العلمية والثقافية المتابعة لأبحاثهم في حيرة من أمرها: من تصدّق منهم ومن تشيح بنظرها عنهم؟ ولعلّ اسم سورية وجغرافيتها وحدودها والشعوب التي استوطنتها، عبر التاريخ، أكثر الأمم عرضة لشتى التآويل في هذا الباب.
إن صغار الجغرافيّين والمؤرّخين المتعلّمين في المدارس الأجنبية والمتحزّبين لقوى سياسيّة، محليّة أو أجنبية، تحكمها الأهواء والمطامح السياسية الصغيرة، يصرّون على اعتبار سوراقية بوصفها منطقتين منفصلتين، الواحدة عن الأخرى، لا منطقة واحدة: الأولى هي «بلاد الشام» والثانية هي العراق أو «بلاد ما بين النهرين»، مع أنهما، لجغرافيّين آخرين غير متحيّزين إلّا لعلمهم واختصاصهم، تنتميان إلى بيئة طبيعية واحدة اسمها سورية (الاسم القديم للبلاد) أو الهلال الخصيب (الاسم الذي أطلقه العالم البريطاني بريستند على المنطقة الممتدة بين طوروس شمالاً وصحراء سيناء والبحر الأحمر جنوباً) أو سوراقية (كما سمّاها أنطون سعادة، محوّراً اسم سورية ليشمل العراق أيضاً).
حجة هؤلاء الجغرافيّين الملتزمين قضايا أمّتهم، أنّ ما يظهر لأولئك الغفلة الواغلين على العلم والسياسة، من منازعات داخلية وداخلية – خارجية، على الأرض السورية، ومن تدهور أو انحطاط ثقافي واقتصادي واجتماعي، على أنه/ أنها وقائع موضوعية، إنما هو/ هي، في الحقيقة، مظاهر برّانية زائلة لا تلبث أن تتلاشى ما إن تُسقط القوى المناهضة في الأمة رهانها على أنظمة شرّعت التجزئة السياسية وامتهنت الخضوع للأجنبي. إنّ في بلاد الشام والعراق (سوراقية)، يؤكّد هؤلاء، وحدة قومية فعلية في الحياة الاجتماعية والمصالح النفسية والاقتصادية وفي المصير القومي العام لا يمكن لعوارض الحدود السياسية المصطنعة تقطيعها وتجزئتها. كما أن ترابط القرى والمدن والأوردة الزراعية فيها لا يسمح مطلقاً بالتفكير بتجزئة الأمة الواحدة إلى أمم والشعب الواحد إلى شعوب تحت أية صيغة من الصيغ أو أية ذريعة من الذرائع. الأمر الذي تجد فيه هذه الإشكالية، موضوع البحث، مبرّراتها النظرية والمنهجية.

-2-

سوراقية مصطلح جديد يُستخدم كثيراً في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، في السنوات الأخيرة، نحته أنطون سعادة (1936) بإدغام اسم العراق بسورية، ليؤكّد انتماء العراق أو ما بين النهرين إلى سورية/ الوطن الأم واعتباره جزءاً متمّماً لها. ولسعادة، في هذا الصدد، تصريح واضح يعود إلى سنة 1936، إذ قال جواباً على سؤال في محل العراق من القضية القومية وصلته بسورية: «إن العراق، أو منطقة ما بين النهرين، هو جزء متمّم للأمة السوريّة والوطن السوري، وكان يُشكل جزءاً من الدولة السوريّة الموحّدة في العهد السلوقي ويجب أن يعود إلى الوحدة القومية التي تشمله، حتى لو اقتضى الأمر تعديل اسم سورية وجعله سوراقية». وفي سنة 1938، ثبّت سعادة رأيه المذكور في خطابه في نادي «همبلط» في برلين التي زارها بناءً على دعوة تلقّاها من أعضاء حزبه فيها، قائلاً: «إن سياسة سورية القومية الاجتماعية تسعى لإزالة الصحراء الداخلية [البادية السورية] بين سورية الأم والعراق وتحويلها إلى مزارع وبساتين تسمح بإنشاء القرى والمدن وترابط العمران فيتم الاتحاد الاجتماعي، الذي إذا لم يسبقه الاتحاد السياسي، فلا غنى له عن اللّحاق به. فيمكن حينئذ إنشاء سورية الكبرى أو «سوراقية»، إذا لم يكن بدّ من تحوير الاسم». وتجدر الإشارة، هنا، إلى أن سعادة كان قد أجرى هذا التنقيح، قبل تثبيته في كتيّب «التعاليم» سنة 1947 ، في أحاديث وخطب بعضها دوّن وبعضها لم يدوّن، خصوصاً ما تعلّق بمنطقة ما بين النهرين، التي كانت داخلة، منذ تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي، ضمن تحديد الوطن السوري، ولكن حدودها وتخومها لم تكن معيّنة كلها لأن بعضها كان لا يزال تحت التحقيق التاريخي والإتني والجغرافي.
وإذا كانت «سوراقية» هي سورية الطبيعية، فإن هذه الأخيرة ليست «سورية الكبرى» ولا «الهلال الخصيب»، المصطلحين اللذين عبّرا، في حينه، عن مشروعَين سياسيّين كبيرين سعى الهاشميون في الأردن والعراق لإقناع الإنكليز بهما وتوحيد سورية الكبرى تحت زعامتهم فيثأرون من الوهابيّين الذين انتزعوا منهم السيادة على الحجاز والجزيرة العربية كلها، بالتواطؤ مع الإنكليز أنفسهم، وجرى استخدام هذين المصطلحين كثيراً في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، للتشويش على التسمية الصحيحة لهذه البلاد التي عُرفت في التاريخ باسم سورية، والتي تبقى متحداً جغرافياً واحداً مهما نشأ فيها من دول، ولا يُغيّر شيئاً من حقيقتها استبدال تسمية جديدة باسمها الذي عرفها به التاريخ، ولذلك رفض سعادة رفضاً قاطعاً التسمية المستحدثة لسورية وصرّح، بحزم، قائلاً: (نحن سوريون لا هللخصبيون!).

-3-

إن التفسير الوحيد للتسميات المتعدّدة التي أعطيت، تباعاً، للبلاد السورية يعود إلى تنوّع الترجمات الأجنبية لحوادث تاريخها القومي، تنوّع مردّه إلى الفتوحات الخارجية الكبرى التي قطعت مجرى وحدة البلاد وأدّت إلى انعدام السيادة القومية. فقد قصَر بعض المؤرخين الأجانب ومن والاهم من مؤرخي البلاد تعريف «سورية» على سورية الغربية، سورية البيزنطية، أو ما بات يُعرف بـ«بلاد الشام» الممتدة من جبال طوروس ونهر الفرات في الشمال إلى قناة السويس وصحراء سيناء في الجنوب، فأخرج هؤلاء المؤرّخون الآشوريين والكلدان وتاريخ بابل ونينوى (أي العراق) من تاريخ سورية. وجميع هؤلاء المؤرّخين لم يُدركوا حقيقة وحدة البلاد السورية ولا تطورات نشوئها، وقد جاراهم أكثر المشتغلين بالتاريخ من السوريّين المتعلّمين من التواريخ الأجنبية بلا تحقيق، فالتبست الحقيقة وضاعت معها القضية السورية الحقيقية.
وإذا تصفّحنا كتب التاريخ في العالم وجدنا أنه لا يوجد، إلا في ما ندر، تعريف واحد لمساحة واحدة تُسمّى «سورية» كما صرّح سعادة نفسه، صاحب الدعوة إلى القومية السورية الاجتماعية. فبعد انهيار الإمبراطورية الرومانية، سقطت سورية بالكامل تحت السيطرة البيزنطية – الفارسية، حيث بسطت الدولة البيزنطية سيادتها على سورية الغربية كلها من كيليكية وأنطاكية شمالاً حتى حدود مصر جنوباً واقتصر اسمها على هذا القسم. وبسطت الدولة الفارسية سيادتها على سورية الشرقية كلها (أي منطقة ما بين النهرين أو أراضي آشور وبابل القديمة) وأطلق عليها اسم «أيراك» (بالكاف الفارسية) الذي عرّبه العرب، لاحقاً، فصار العراق.

وفي العصر الحديث، بسطت الدولتان الاستعماريّتان، فرنسا وبريطانيا، سيادتهما على سورية وتمّت تجزئتها حسب المصالح والأغراض السياسية لهاتين الدولتين الاستعماريّتين، وحصلت التسميات: فلسطين، شرقي الأردن، لبنان، سورية (الشام)، كيليكية، والعراق. فتقلّص اسم سورية إلى منطقة الشام المحدودة، ولا يزال.
إن اقتسام البيزنطيين والفرس البلاد السورية، في ما بينهم، وإقامة الحواجز بين شطرَي الأمة، الغربي والشرقي، عرقل كثيراً حركة النمو القومي ودورة الحياة الاجتماعية الاقتصادية الواحدة، ونتج عن ذلك إبهام في حقيقة وجود الأمة والوطن، حتى انتبه سعادة إلى هذه الثغرة وراح، في أبحاثه وتحقيقاته، يزيل هذا الإبهام، واضعاً النقاط على الحروف. فكان عليه، كالأركيولوجي الذي يبحث في طبقات الأرض، أن ينقّب في أطمار وطبقات التاريخ، منتقلاً من نقطة إلى نقطة، ومن كتاب إلى كتاب، ومن لغة إلى لغة، إلى أن وصل إلى هذه الحقيقة الهامة التي تجعل من المنطقة الممتدة بين طوروس والسويس وبين البحر المتوسط وجزيرة العرب بلاداً واحدة والشعوب التي انتشرت فيها أصولاً مشتركة لأمة واحدة لا يمكن أن تخطئها بصيرة العالم الاجتماعي والسياسي.

-4-

إنه لمن المؤسف جداً، أن تاريخ هذه البلاد، خصوصاً بعد الفتوحات الكبرى التي تعّرضت لها وعانت من ويلاتها الكثير – فتوحات الفرس والإغريق والرومان والعرب والفرنجة – كان يُكتب من قبل مؤرّخي المدرسة الإغريقية – الرومانية للتاريخ: تلك المدرسة التي رمت إلى تشويه حقيقة السوريّين الاجتماعية والنفسية والحطّ من شأنهم والتشنيع بكل ما هو سوري، وأولئك المؤرّخون الذين كتبوا بروح العداء لسورية والسوريّين وبعدم إنصاف للحضارة والثقافة السوريتَين. وقد شهد على هذا الظلم اللاحق بسورية وتاريخها مؤرخون غربيون كبار يأتي في طليعتهم المؤرخ الإيطالي المشهور شيزر كنتو (Cesare Cantu 1804-1895)في مؤلفه «التاريخ العالمي» (1842). إن معظم التواريخ الأجنبية والمؤرخين الأجانب لم ينظروا إلى سورية من وجهة حقيقة الأمة وحقيقة الوطن، بل من وجهة النظر السياسية الأجنبية الخاضعة لمصالح دولهم الاستعمارية. والمصادر التاريخية الأجنبية كانت تُطلق المصطلحات السياسية بلا تحقيق للوضع الطبيعي والاجتماعي. إذا اعتمدنا فوليبيو (Polype) مرجعاً لدرس الحروب بين قرطاجة وروما المعروفة بـ«الحروب البونية» حسب التعابير الأجنبية، كنا مضطرّين، بحسب روايته، كما اضطرّ عدد من «مؤرّخينا» الببغائيّين، إلى التسليم بانحطاط السوريّين الكنعانيين أو البونيين وتفوّق الرومان عليهم، مع أن «الحقيقة كانت عكس ما رمى فوليبيو إلى إظهاره، لأن الرومان دُهشوا للآثار الفنية التي حملها جيش سيبيو (Scipion) من بين أنقاض عاصمة الإمبراطورية السورية الغربية، قرطاضة العظيمة». إن فوليبيو الإغريقي الذي ورث حقد اليونان على الكنعانيين رمى إلى تشويه القيم السورية ورفع قيمة الرومان وتقليل أهمية الأفعال التي قام بها السوريون الكنعانيون في السلم والحرب. فهو قد صوّر حملة هاني بعل إلى إيطاليا وعبوره جبال البيرينه ثم جبال الألب الشاهقة تصويراً يحطّ كثيراً من قيمة تلك الحملة العسكرية النادرة المثيل، نافياً أن تكون شيئاً خارقاً للعادة لأن بعض القبائل المتوحشة عبرت في ارتحالها جبال الألب، مساوياً بين ارتحال قبائل همجية تضرب في الأرض على غير هدى، بلا هدف، وحملة عسكرية منظّمة خُطّطت بعناية فائقة وبجرأة عديمة المثيل في التاريخ وبعزيمة كأنها القضاء والقدر. مما لا شك فيه، أن هذا الإبهام في حدود سورية أو سوراقية أو المشرق السوري يعود بالأكثر إلى انهيار السيادة القومية، لأجيال طويلة، وانقطاع استمرار التاريخ القومي بعامل الغزوات الخارجية، وإلى انعدام مصادرنا التاريخية التي يجب اعتمادها، وحدها، في كتابة تاريخنا القومي، وعدم التعويل كثيراً على المصادر الأجنبية التي، غالباً، ما تكون متحيّزة.

-5-

أدّى هجوم الصحراء العربية من الشرق باتجاه الهلال الخصيب، بعامل تناقص السكان وتقلّص العمران وقطع الغابات وتجريد مناطق واسعة من البلاد من أحراجها، بسبب الحروب والغزوات، أدّى إلى زيادة الطين بلّة. الأمر الذي دفع بالمؤرخين الأجانب – ومن خلفهم المشككون بإمكانية وحدة البلاد من السوريين أنفسهم – إلى اعتبار التجويف الصحراوي (البادية) بين الشام والعراق حاجزاً طبيعياً لا يمكن تخطيه في أي مشروع وحدوي مستقبلي. فالبقعة الكبيرة الممتدة ما بين نهري الفرات والأردن المعروفة بالصحراء السورية أو بادية الشام والتي تشكل ثلث مساحة سورية الجغرافية تقريباً، تبدو كأنها لسان من الصحراء العربية يخترق البلاد السورية من الشرق إلى الغرب، ولكنها ليست صحراء بكامل معنى الكلمة. إنها، بالأحرى، قفر من النبات والعمران وقد ساعد انحطاط الثقافة والتمدّن جفاف الصحراء العربية على التمدّد إلى هذه البقعة السورية الخالية من الأنهر، فأقفرت أرضها وتعرّت تربتها وصارت شبه صحراء. ولكن هذه البقعة ليست صحراء كالصحراء العربية، فهذه الأخيرة صحراء رملية، تتوسطها صحراء النفوذ وتمتدّ إلى الربع الخالي فهي ليست ترابية ولا تصلح للفلح والزراعة. أمّا الصحراء السورية فهي بادية ترابية، صالحة للفلح والزراعة واستعادة الخضرة، ولم تكن في غابر عهدها جرداء كما تبدو، اليوم. وإن وسائل الرّي من دجلة والفرات، متى تحقّقت، تفتح مجال إمكانيات زراعية عظيمة لهذه البقعة المقفرة. وإذا أمكن تحريج المناطق المحيطة بها تعدّل الإقليم، وارتفعت كثافة الرطوبة في الهواء، وزادت الأمطار، وأمكن تحويل مساحات جرداء إلى مزارع وبساتين تسمح بإنشاء القرى والمدن وترابط العمران.

-6-

أدّى فقد سورية سيادتها على نفسها ووطنها بعامل الفتوحات الخارجية، أدّى إلى تجزئة البلاد وإطلاق تسميات مجزّأة عليها، كما سبقت الإشارة. وزاد الطين بلة نشوب ما يُمكن تسميته، أحياناً، بـ«الحروب الداخلية» بين ممالك وإمارات الأمة الواحدة. هكذا، كان العدو الخارجي يستفيد من حالة الانقسام الداخلي ليثبّت وجوده ومصالحه على حساب وجودنا ومصالحنا، ولكن العمران ودورة الحياة الاقتصادية الاجتماعية الواحدة استمرّتا – على الرغم من ذلك – في سيرهما الحثيث. الأمر الذي جعل مطلب السيادة والوحدة القومية ممكناً، على الدوام.
شهدت البلاد السورية، في فترات كثيرة من تاريخها، نزاعات محلية صنّفها بعض المؤرخين في خانة الحروب التي تجري عادة بين شعوب متجاورة متخاصمة بهدف التوسع والغلبة، في حين أطلق عليها سعادة صفة «الحروب الداخلية» التي هي نزاع على السلطة بين جماعات الأمة الآخذة في التشكّل. فالدول الآشورية والكلدانية والحثية والكنعانية التي نشأت في هذه البلاد، نشأت ابتغاء بسط السلطان لإحدى هذه الفئات على بقية البلاد ولإيجاد تمركز لها وليس بدافع انفصال الحياة وانعزال البيئة واختلاف في الحياة واتجاهها. وكما حدث في سورية تنازع داخلي سبق وحدتها السياسية، حدث مثل ذلك في تاريخ أمم أخرى. فإذا أخذنا إيطاليا، مثلاً، وجدنا أنه نشأ فيها نزاع بين المدن اللاتينية وبين روما وأخذت روما منها اللسان اللاتيني، ثم أخذت تسيطر على باقي القبائل هناك. حدث الأمر نفسه في بلاد الإغريق في النزاع الذي استمر طويلاً بين أثينا وإسبرطة وطيبة للسيطرة على اليونان. وهكذا استمرّت الحروب إلى أن توحّدت هذه الشعوب في وحدة حياة ووحدة مصير. وكما أن الحروب في إيطاليا أو في اليونان أو في بلاد العرب كانت حروباً داخلية بين قبائل/ أصول الأمة الواحدة، كذلك الحروب بين الجماعات السورية كانت حروباً داخلية عائدة، في جملة أسبابها، إلى البيئة الجغرافية المتّسعة والمتنوعة حيث أدّت صعوبة المواصلات وضعف كثافة السكان إلى أن يقوم كل جزء منها بمجهود سياسي خاص به وإن يكن يشمل في القصد بقية الأجزاء. إن الشعوب المديترانية (المتوسطية) والآرية التي استوطنت هذه البلاد وكونت المزيج السوري، نزع كل شعب منها إلى إقامة الدولة ومنافسة أشقائه في النفوذ والملك وفي السعي لضم بقية الأجزاء تحت سلطانه، فنشأت الدول السورية الأولى القديمة التي نشب بينها – كما أسلفنا – نزاع داخلي، ولكنها كانت تتحد وتتحالف ضدّ الأخطار الخارجية، وكانت في فترات طويلة من التاريخ تُطيع حكومة أو دولة سورية واحدة.
إن تاريخ الدول السورية كلّها، إذن، يدل على اتجاه واحد: الوحدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الهلال السوري الخصيب. هذه الحقيقة تجعلنا نفهم الحروب بين هذه الدول للسيطرة على جميع البلاد فهماً جديداً يخالف الفهم المستمدّ من التحديدات غير الصحيحة. فهذه الحروب هي حروب داخلية، هي نزاع على السلطة بين جماعات الأمة الآخذة في التكوّن والتي استكملت، في ما بعد، تكوّنها.

-7-

سبق أن ذكرنا في مطلع هذه المقالة، أن سورية/ سوراقية، أو بلاد المشرق هي وحدة جغرافيّة – زراعيّة – اقتصاديّة – إستراتيجية. فالأرض بيئة طبيعية واحدة تقوم عليها وحدة شعبية وأنحاؤها تُكمل بعضها بعضاً. ووحدة الأرض الزراعية هي أساس وحدة الحضارة السورية (الشامية- العراقية). إنها وحدة متشابكة بالأنهر السورية: دجلة والفرات (وروافدهما الكثيرة) وسيحون وشيحون والعاصي والأردن واليرموك والليطاني، وما بينها من جداول وبحيرات وبرك.
وعلى الرغم من الضربات المتلاحقة التي جرت في حقبات تاريخية كان آخرها الاحتلال والإفقار العثماني تبعتها ضربة الدول الأوروبية المنتصرة في الحرب الكبرى (1914- 1918) بإعطاء فلسطين لليهود، ما أدّى إلى تقطيع شرايين الحياة في الأمة، فإن دورة الحياة الاقتصادية الاجتماعية بين مناطقها، خصوصاً في المحطات الصعبة من تاريخها، لم تنقطع، يوماً. إنّ سرّ بقاء سورية (ومن ضمنها العراق) وحدة خاصة وأمّة ممتازة، مع كل ما مرّ عليها من غزوات، يقول سعادة، هو «في هذه البقعة الجغرافية البديعة، وهذه البيئة الطبيعية المتنوعة الإمكانيات من سهول وجبال وأودية وبحر وساحل، هذا الوطن الممتاز لهذه الأمة الممتازة».
يبقى أن نُشير إلى أنه رغماً من تسييس قضيتها، في الماضي، في مشاريع استعمارية مشبوهة وفاشلة، كمشروع سورية الكبرى أو مشروع الهلال الخصيب، والتي أعدّتها قوى استعمارية وقوى محلية عميلة لها، تبقى سورية أو سوراقية منطقة جغرافية واحدة ومتحداً اجتماعياً واحداً مهما نشأ فيها من دول، ولا يغيّر شيئاً من حقيقتها استبدال تسمية استعمارية جديدة أو تسمية تفرض فرضاً بعامل الحرب الدائرة عليها وفوق أراضيها، فكما ذهبت تسمية «اللوان» أو (Levant) إلى النسيان، برحيل الاستعمار الفرنسي، كذلك ستذهب أية تسمية برحيل مطلقيها، إقليميّين كانوا أم دوليّين، والتاريخ أقوى شاهد.

———————————————-
مصدر المقال: جريدة الأخبار، الخميس 23 كانون أول 2021.

‫2 تعليقات

  1. علاء اللامي يحاور القوميين السوريين في مفهوم الأمة واسمها وحدودها من على صفحته كما من على منبر جريدة الأخبار .. رأيي من بين الآراء المتنوّعة يبذر على بساط المعرفة والثقافة .

    حبين التغريب والتشريق وبين السورقة والسّورنة كما بين اللبننة والتعريب تضييع هويّة الأمّة بإغفال مبادئ نشؤ الأمم وتقنيع شخصيتها بالحوادث السياسية العابرة مجرى الزمن وتأسيس تطوّر الحياة والتاريخ على مقولة الصراع الحتمي بين الآخذين بالمبدأ المادي والمبدأ الروحي بدل مفهوم “التفاعل الموحّد، الجامع للقوى الإنسانية” ..

    ” سورية الكبرى” و ” سورية الطبيعية” و ” وسوراقيا” مسمّيات متعدّدة لمولود واحد ٍ أمّه الأرض وأبوه التاريخ وحياته وشخصيته تشكّلت مع اضطراب نموّه فاكتسب شخصيته المميّزه له مثل بقيّة المواليد الإنسانية ..

    شخصيّة الأمة، المُختَصر التعبيري عن ذلك المركّب الحاصل بمبدأ التفاعل الأفقي والعامودي والمنتج لنفسيتها ونظرتها إلى الحياة هو ما يجب أن يتقدّم الحوارات والنقاشات بين النخب الفكرية والثقافية في البلاد ..
    إنّ سبر أغوار هذه الشخصية وكشف نظرتها إلى الحياة والوجود يشكل الدافع الأساسي للسعي نحو الإتحاد القومي ويرسم المصلحة المشتركة في الحفاظ على هذه الشخصية والعمل وفق هذه النظرة بما يؤمن الشعور بالطمأنينة والتآلف المحيي بين أبناء القومية المشتركة.

    الأمّة وعالمها مدفوعان لإحلال التعاون لا التصادم، وذلك ارتكازاً على القاعدة نفسها التي تقول بضرورة العمل وفق مبدأ التفاعل الموحّد للقوى الإنسانية..

    إن العلاقة بين سورية وعالمها العربي لا تحتمل أن تقوم على فكرة ” الصراع وتنازع البقاء “.. فكما لم يحجب الاصطراع الداخلي بين الجماعات المكوّنة للأمّة الواحدة، والضارب عمقه في التاريخ الموغل قدماً ، والممتد جغرافياً من بقاع الوطن الشمالية إلى الجنوبية مرورا بداخلها وساحلها ، حقيقة احتضان التفاعل لكل نظريات الإشتباكات والحروب كاحتضانه لنشؤ الممالك المتحدة ( كالمملكة السلوقية ) ، كذلك هو التفاعل بين سورية وعالمها العربي ، هو يتقدم على عمليات تخليق أسباباً نظرية وعملية تؤجج الخلافات وتضرم نار النزاعات والحروب الصراع ..

    لن يدخل العراق بكيانه السياسي الحالي ولن تدخل بلاد الرافدين أو ما بين النهرين ضمن حدود الوطن الواحد إذا أطلقنا أسم ” سوراقية”عليها أو اقتصرنا بالإسم على ” سورية” فقط ..كما لن تكبر سورية إذا أسميناها “الكبرى ” !!

    فالتأكيد على وحدة الأمة ينطلق أولاً من وحدة الوطن الحاضن للجماعة وهذا يرتكز تحديده على مجموعة من العوامل أهمها ” وحدة الحضارة ” في هذه البلاد ، وهذه تتجلى في تشابك العمران والزراعة المنتشرة على ضفاف النهرين العظيمين والناتج الثقافي المشترك وما يتمظهر منه في وحدة التقاليد والنظرة المشتركة إلى الحياة..

    إنّ دخول أسم العراق في إسم الأمة كخروجه منها ،يماثل استعادة الأمة السوريّة وفق مبادئ أنطون سعاده أو تصغيرها إلى وضعها كما هو في الجمهورية الحالية .. إنّما كل ذلك هو مناط بمدى فعالية الأمة في ازالة الحواجز المختلفة وإطلاق العنان لأوسع تفاعل موحّد ، جامع بين مكوّناتها وقواها الحيّة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق