[يدور حوار بين بعض الكتاب والمهتمين ممن ينتمون إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، أو ممن يهتمون بفكره وقضاياه، حول تسمية الأمّة، فما هو وارد عند مؤسس الحزب ومتداول ومعروف وبديهي أنَّ الأمّة سوريّة، غير أنَّ بعض الكتاب يقترح تغيير اسمها إلى سوراقيا للتدليل المباشر اللفظي على كون العراق منها. أبرز من يقترح تغيير الاسم من سوريا إلى سوراقيا الدكتورة صفيّة أنطون سعادة. يأتي هذا المقال في سياق هذا الحوار. سيرجيل]
مقدمة
في الفترة الأخيرة لاحظت أن عدداً من القوميين ومن غير القوميين يتقوّلون بكلمة (سوراقية أو سوراقيا) بدلاً عن كلمة سورية أو سوريا، في التّدليل على الأمة السورية والوطن السوري، وهذا برأيي غير دقيق ولا يصحّ لعدة اعتبارات سوف أتناولها في هذا المقال.
فصحيح أن الحزب لا يُصادر الحريات الفردية والقناعات الشخصية إنّما بما لا يتعارض مع قناعاتنا الحزبية الأساسية، وبما لا يشوّش على توجّهاتنا الفكرية، فمن يرغبون من غير القوميين بإطلاق اسم سوراقيا على أمتنا بدلاً من اسم سوريا، هم أحرار فيما يطلقون. أمّا من هم قوميون ممّن اقتنعوا بأفكار سعادة عليهم برأيي الالتزام بما عرضه من خلاصات أبحاثه، وبالحقائق التاريخية والاجتماعية التي توصّل إليها، وإلا نكون مغرّدين خارج ما أراده لنا أن نقتنع ونؤمن ونتعاقد. وبالتالي فإن الأمر هنا ليس حرية شخصية، ولا رؤية فردية.
أهمية الموضوع
أردت أن أعرض وجهة نظري في هذا الموضوع لما أرى فيه خطراً بالطرح، وتمييعاً لتعيين ذاتنا وتحديد أمتنا، وإن كنت لا أرغب في نقل البحث للتعمّق في تاريخ المنطقة وجغرافيتها، لكني أرى أن لا بدّ من إبراز النقاط التي استند إليها سعادة في تحديده أنّنا أمّة سوريّة. إذ حينما سأل السؤال المنطقي “من نحن” بعد تساؤله “ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟” حتماً لم يكن لديه إجابة محدّدة، إذ جاءت بعد بحث وتقصٍّ عميقين، فكان جوابه العلمي لا العاطفي، ولا السياسي أو الدبلماسي، ولا الظرفي أو المرحلي “أننا سوريون وأننا أمّة تامة” و”أن أمّتنا هي سورية”.
ولن نغفل عن أنّه واضع كتاب نشوء الأمم، الكتاب القيّم في علم الاجتماع ونشوء القوميات، وبالتالي لم تكن إجابته رجراجة أو مجتزأة، ولا من باب التشبّه أو النقل… إنما راسخة مستندة على دراسات علمية – تاريخية – اجتماعية كان قد قام بها قُبيل تأسيسه الحزب ووضعِ مبادئه.
فعبثاً نحاول أن نغيّر من تعيين ما نحن، فنقول نحن سوراقيون بدل سوريين، أو أن وطننا هو سوراقيا بدل سوريا مهما كانت تبريراتنا، ومهما كانت دوافعنا، فإننا بهذا الطرح نشوّش على الحقائق التي أوردها سعادة والتي آمنا بها وتعاقدنا معه لنصرتها.
اعتبارات سعادة في تحديد الأمة
كان قد ضمّنها في كتابه ((نشوء الأمم))، فباختصار وتكثيف شديدين نجد سعادة في هذا الكتاب يتوصّل إلى أن الأمة (أيّ أمة) لا بد لتتشكل، من قطر معين
يحتضنها وتتفاعل فيه ومعه، إذ يقول “الأمّة تجد أساسَها، قبل كلّ شيء آخر، في وحدة أرضيّة معيّنة تتفاعل معها جماعة من النّاس وتشتبك وتتّحد ضمنها” .. “لا أمّة على الإطلاق بدون قطر معيّن محدد” .. “الأمّة جماعة من البشر تحيا حياةً موحّدة المصالح، موحّدة المصير، موحّدة العوامل النّفسيّة – الماديّة في قطر معيّن يكسبها تفاعلها معه، في مجرى التّطوّر، خصائص ومزايا تميّزها عن غيرها من الجماعات.” (نشوء الأمم).
ومفهوم القطر لديه هو البقعة الجغرافية المحدّدة بحدود طبيعية قوية مثل الجبال الشاهقة والبحار والصحارى والأنهر الكبيرة العريضة، بمعنى حدود تَرسم قسراً دورةَ الحياة الطبيعية الاجتماعية الاقتصادية للجماعة، فالقطر هو الوطن جغرافياً عند سعادة، وبهذا التوصل العلمي امتلك سعادة محدّدات واضحة يُسقط عليها واقع التوزّع البشري على الكرة الأرضية، وبذلك تمكّن من الاجابة على التساؤلين من نحن وما نحن؟.
الالتباس الذي حصل من ناحية تحديده الحدود الشرقية
في بداية تحديد سعادة لحدود الوطن السوري لم تكن الدراسات لديه مكتملة تماماً فيما يتعلّق بالحدود الشرقية، وكذا في البحر من الناحية الغربية، لذلك نجده قد حدّد الوطن السوري على الشكل التالي حسب ما أورده في الطبعة الأولى من كتيّب (مبادئ الحزب السوري القومي وغايته) عام 1936 في نص المبدأ الخامس “الوطن السوري هو البيئة الطبيعية التي نشأت فيها الأمة السورية، وهي ذات حدود جغرافية تميّزها عمّا سواها، تمتد من جبال طوروس في الشمال إلى قناة السويس في الجنوب، شاملة شبه جزيرة سيناء وخليج العقبة، ومن البحر السوري في الغرب، إلى الصحراء في الشرق حتى الالتقاء بدجلة.” والمقصود بالصحراء في هذا النص ما كان يُعرف بالصحراء السورية، والتي عُرفت لاحقاً باسم البادية السورية.
أما عن توضيح أسباب هذا الالتباس فيقول سعادة في توطئته التوضيحية للطبعة الرابعة من كتيب المبادئ لعام 1947:
“منـذ أن انهار، بعامل الفتح الرومي (الروماني) النظام السوري السياسي والاجتماعي والـحـربي … تعرّض مصير سورية لتقلبات كثيرة في أجيـال عديدة كـان الفاعل الأقوى فيها دائماً إرادة الفاتـح الـجديد وسياسته، فجُزّئت البلاد ثم وُحّدت ثم جـزّئت حتى ضـاعت حقيقتهـا … وصار الباحث عن حقيقتها يحتاج إلى تنقيب دقيق واسع …. “
ولمدى صعوبة وتعثّر إمكانية البحث، حتى لا يُعتقد بأن سعادة كان مستعجلاً في تحديداته الأولية نجده يعبّر عن مدى هذه الصعوبة بالقول “وهذا العمل، لعمري، أشبه شيء بإنشاء الأمة السورية إنشاءً جديداً لأنه يعني بعثها من مدافن التاريخ وتأسيس حقيقتها تأسيساً واضحاً كاملاً لا يعود يشذّ عنها وعيُها ولا يقوم على غيرها وجدانُها”.
ويستكمل ليقول بأنه رغم إدراكه كل هذه الصعوبات “أخذت على عاتقي هذه الـمهمة العظمى، وحالـما وضحت لي الـحقيقة في خطوطها الكبرى العريضة وطّدت عزيـمتي على إنشاء النهضة السورية القومية الاجتماعية التي جعلت غايتها إحياء حقيقة الأمة السورية وشق طريق وجودها وارتقائها وإقامة نظام اجتماعي جديد فيها. فوضعت هذه الـمبادىء التي عَيّنت فيها حقيقةَ الأمة السورية وحقيقة الوطن السوري وحقيقة النفسية السورية، وباشرت الدعوة إليها وتعليمها… وفي الوقت عينه كنت أتابع التنقيب والتمحيص والتحرّي لإكمال الـحقيقة.… وبينما أنا أعدُّ، إلى جانب العمل التأسيسي، الاجتماعي، السياسي، الـمواد لإعادة تركيب كيان الأمة وتقرير جميع تفاصيلها في كتاب خاص، فوجئت بالاعتقالات الأولى التي كشفت أمرَ الـحركة الناشئة وأوجدتها … والسجن ليس الـمكان الصالح لـمتابعة التحقيقات الإتنية والـجغرافية والتاريخية… فاضطررت للاقتصار على ما كنت بلغته قبل السجن فاستعنت به لإنـجاز الكتاب الأول من نشوء الأمـم … فبقيت بعض النقاط، من جراء ذلك، غير كاملة التحقيق، خصوصاً ما تعلّق بالدولة السورية البرية البابلية والأشورية والـحثية، وبالوضع الأرضي في تـجويف الهلال السوري الـخصيب وأسباب عمق التجويف في الأزمنة الانحطاطية، الأمر الذي تداركته في ما كنت أعددته للكتاب الثاني من نشوء الأمـم الـمختص بنشوء الأمة السورية، ولكن سُرقت الـملاحظات الأولى من دار القضاء من جراء الاعتقال الثاني، فأعود الآن إلى الاهتمام بإعداده.”
ولضرورة وضع التعاليم والمبادئ كي يستند إليها القوميون في نشر عقيدتهم والدفاع عنها، اضطّر سعادة بعجالة لوضع ما كان قد توصّل اليه في كتيّب فيقول: “ولـما ازداد الإلـحاح على وجوب وضع التعاليم السورية القومية الاجتماعية في نص يحفظ حقيقتهـا وجوهـرها، وضعت في أثنـاء الاعتقال الثاني، الذي جرى ولم يـمضِ على انتهاء الاعتقال الأول سوى نحو شهر ونصف، شرحَ الـمبادىء وأرسلته من السجن ليُطبع ولتعتمده الـحركة في ردّ تهجمات الـمعتقدات الدينية الاجتماعية في القومية، ولوضع حقيقة الأمة والقضية القومية الاجتماعية في نص واضح يحفظ بقاءها واستمرارها. فكان الشرح مستعجلاً….”
ويتابع توضيحه “ولـمّا كانت القضيّة قد أصبحت تقتضي اكتمال كليتها بسرعة كي لا تبقى أيّة ناحية من نواحيها ناقصة أو غير واضحة كل الوضوح، انتهزت سانحة إعادة طبع التعاليم (الـمبادىء والشرح) للمرة الرابعة لأنقّحها وأكملها على أساس الطبعة الثالثة الـمنقّحة في الأرجنتين. وقد اشتمل التنقيح على:
1 – إكمال توضيح الـحدود الشرقية الشمالية للوطن السوري، التي كانت متروكة مفتوحة في متطرّفها الشرقي.
وللإضاءة على الفترة التي حصل فيها هذا التنقيح لا بدّ من متابعة سعادة في مسار بحثه وتقصّيه:
فمؤسسة سعادة للثقافة تعرُض عن هذه المرحلة بعنوان “سيرة أنطون سعادة” حيث نجد: “أمضى سعادة بضعة أسابيع في قبرص غادر بعدها الى رومة (أيلول 1938) حيث اتصل بالصحافة الإيطالية وبدأت تظهر في هذه الصحف المقالات الانتقادية لسياسة فرنسة في الشرق الأوسط. ومن رومة انتقل سعاده الى برلين (تشرين الأول 1938)، بدعوة من فرع الحزب هناك، وخلال تواجده في العاصمة الألمانية، لاحظ سعاده ان مسؤول الفرع الحزبي قد تهاون في أمر الاستقلال السياسي عن العوامل الخارجية فأنّبه وعزله. وألقى سعادة محاضرة بالألمانية في نادي هامبلت في برلين (بعض المصادر تقول إن المحاضرة ألقاها سعادة في جامعة برلين) حضرها عدد من المثقفين الألمان ومسؤولون من الوزارات المختصة بشؤون الشرق الأدنى. وفي هذه المحاضرة ظهرت للعلن للمرة الأولى أفكار سعادة حول الحدود الشرقية للوطن السوري وموقع جنوب العراق في هذا الوطن، إذ كانت النصوص الأولى للمبادئ تشير إلى ضفاف دجلة فقط. وقد كان هذا الموضوع محور مباحثات علمية داخل الحزب قبل رحلة سعادة ولكن محاضرته في برلين هي أول مظهر واضح لهذه الأفكار” .. إذاً التوضيح حصل في العام 1938.
2 – إكمال توضيح الـحدود الشمالية الغربية التي تشمل جزيرة قبرص التي هي جزء من الأرض السورية.
كان سعادة قد ذهب إلى قبرص في العام 1938 بُعيد مغادرته الوطن مباشرة في طريقه إلى أوروبا، حيث زار إيطاليا ثم ألمانيا، وكان قد بقي في قبرص من 23 حزيران 1938 إلى 28 تموز منه، وكعادة سعادة لا يقضي وقتاً دون البحث والتمحيص، فيقول عن ذلك الأمين نواف حردان: ” تسنى لسعادة وهو في قبرص أن يطّلع على أحوال شعبها وعاداته، على تاريخها كما على جغرافيتها فتولّدت لديه القناعة أنّها قطعة من الوطن السوري، إلا أن ذلك لم يُعرف ويُعمّم إلا بعد عودته إلى الوطن عام 1947 عندما ثبّت ذلك في المبدأ الأساسي الخامس”. الأمين نواف حردان في كتابه سعادة في المهجر – الجزء الثاني.
3 – تصحيح النظرة إلى تـجويف الهلال السوري الـخصيب وأسباب عمقه.
4 – تعديل النظر إلى الـحروب السورية الداخلية بين الدول الـجزئية التي رمت كل دولة منها إلى توحيد البلاد تـحت سيادتها كالدولة البابلية الأولى والثانية، والدولة الأشورية خاصة، والدولة الـحثية.
وتجنباً لأيّ تشويش يمكن أن يحصل في ذهن القوميين والمطّلعين على ما كان وضَعَه سعادة بين أيديهم من أفكار ومبادئ، نجده يؤكّد لنا أنه في هذا التوضيح لم يُجرِ أي تعديل أو تغيير أساسيين فيما وضعه سابقاً فيقول: “في كل مقابلة بين النص الـمنقّح والنص الأول تُري أنّ القضية القومية الاجتماعية وتعاليمها بقيت هي هي، وأنّ التنقيح أكمل الـحقيقة وخلّصها من بعض الشوائب الـجزئية التي لم تسلم منها في الطبعتين الأوليتين بسبب العجلة وضغط الظروف، من غير أي تبديل لها أو لأصولها”.
أما عن وقت حصول هذا التنقيح في ذهن ومعرفة وقناعة سعادة فيورد: “ولا بد من القول إنّ هذا التنقيح كان قد جرى من قبل في أحاديث وخطب تعليمية بعضها دُوّن وبعضها لم يدوّن، خصوصاً ما تعلّق بالـمنطقة الشمالية الشرقية من سورية، منطقة ما بين النهرين (العراق)، التي كانت داخلة من الأول ضمن تـحديد الوطن السوري، ولكن حدودها وتخومها لم تكن معيّنة كلها لأن بعضها كان لا يزال تـحت التحقيق التاريخي والإتني والـجغرافي. ولي في هذا الصدد، تصريح واضح يعود إلى سنة 1936، إذ قلت، جواباً على سؤال في محل العراق في قضيتنا: «إنّ العراق، أو ما بين النهرين، هو جزء متمّم للأمة السورية والوطن السوري، وكان يشكّل جزءاً من الدولة السورية الـموحّدة في العهد السلوقي ويجب أن يعود إلى الوحدة القومية التي تشمله، حتى ولو اقتضى الأمر تعديل اسم سورية وجعله سوراقية.»
ويستكمل سعادة في إيضاحاته “إنّ تعبير «الالتقاء بدجلة» في الـمبدأ الأساسي الـخامس الذي ينص على حدود الوطن السوري، الذي أُبدل في الطبعة الثالثة بتعبير «ضفاف دجلة» شمل، في الصحيح، الـمقصود بـمنطقة ما بين النهرين (العراق)، من غير تعيين دقيق لـحدود الـمنطقة. وقد رأيت أنّ تركها غير محدّدة نهائياً يفسح مجالاً للشك ولذلك قررت إكمال تـحديد حدود وطننا القومي في هذه البقعة، إكمالاً لـجميع تفاصيل القضية السورية القومية الاجتماعية. وقد رأيت أن أفعل مثل ذلك في تفاصيل الـحدود الغربية وأن أصرّح بأن جزيرة قبرص هي جزء من الوطن السوري في الـماء، حتى لا يبقى أيّ شك في ما نعنيه بالبحر السوري في الغرب.»
ويختم ليؤكد “لذلك يجب القول بصراحة لا تقبل الشك إنّ التنقيح تناول الضبط فقط في الـحدود والتفاصيل وتثبيت الأساس وزيادة إيضاحه. وإنّ من الـمؤسف أن لا تكون الظروف قد سمحت لي بإكمال تفاصيل القضية السورية القومية الاجتماعية في الشرح الأول أو قبل اغترابي فمرّت مدة طويلة والناس يتداولون الشرح غير الـمضبوط الذي أنشئ بسرعة شديدة في السجن”.
وإذا تتبعنا ما ضمّنه سعادة في الطبعة المنقحة وفي توسّعه في شرح المبدأ الأساسي الخامس في المحاضرة الخامسة من المحاضرات العشر 1948 لوقفنا أكثر على أهمية وحساسية إجلاء أي التباس حول هذا الاستكمال، فنجده يتوسع في شرح المبدأ الأساسي الخامس ويقول: “إنّ فقد الأمة السورية سيادتها على نفسها ووطنها، بعامل الفتوحات الخارجية الكبرى، وإخضاع البلاد السورية لسيادات خارجية عرّض البلاد إلى تجزئة وإطلاق تسميات سياسية متجزّئة عليها. ففي العهد البيزنطي ـ الفارسي بسطت الدولة البيزنطية سيادتها على سورية الغربية كلّها، واقتصر اسم سورية على هذا القسم وبسطت الدولة الفارسية سيادتها على سورية الشرقية (ما بين النهرين) وأطلقت عليها اسم “إيراه” الذي عرّبه العرب فصار “العراق“. وبعد الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) بسطت السيادة الأجنبية المثنّاة (بريطانية وفرنسة) على سورية الطبيعية وجُزئت حسب المصالح والأغراض السياسية وحصلت التسميات: فلسطين، شرق الأردن، لبنان، سورية (الشام)، كيليكية، العراق. فتقلص اسم سورية إلى منطقة الشام المحدودة. وكانت قد أخرجت جزيرة قبرص من حدود سورية مع أنها قطعة من أرضها في الماء”.
“وإنّ اقتسام البيزنطيين والفرس سورية فيما بينهم وإقامة الحواجز السياسية بين سورية الشرقية وسورية الغربية عرقل كثيراً، وإلى مدة طويلة، عودة النمو القومي ودورة الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ونتج عن ذلك إبهام في حقيقة حدود سورية”.
ويستكمل سعادة في توضيحاته حول هذا الالتباس:
“وزاد الطين بلّة هجوم الصحراء ودخولها في تجويف الهلال السوري الخصيب، بعامل تناقص السكان وتقلّص العمران بسبب الحروب والغزوات وبعامل قطع الغابات وتجريد مناطق واسعة جداً من البلاد من حرجاتها. وإنّ عدم وجود دراسات سابقة، موثوقة في أسباب زيادة الجفاف في تجويف الهلال السوري الخصيب وتناقص العمران فيه ساعد على اعتبار التمدد الصحراوي حالة طبيعية دائمة، الأمر الذي أثبت بطلانَه تحقيقي الأخير“.
“إنّ تحقيقي أثبت وحدة البلاد وأعطى التعليل الصحيح لوضعها وأسباب تجزئتها الخارجة عن حقيقتها. فثبّتُ منطقة ما بين النهرين ضمن الحدود السورية وأصلحتُ التعبير الأول “ضفاف دجلة”، الذي كنت اعتمدته بجعله أوضح وأكمل بإعطائه مدى معنى منطقة ما بين النهرين التي تصل حدودها إلى جبال البختياري، إلى الجبال التي تعيّن الحدود الطبيعية بين سورية وإيران”.
ويضيف في شرحه “إنّ منطقة ما بين النهرين دجلة والفرات لم تكن تاريخياً منطقة تقتصر على شقّة الأرض الواقعة بين هذين النهرين، بل كانت تعني كل الأرض المجاورة للنهرين، الواقعة بين الصحراء العربية وجبال البختياري أو زغروس… ولا شكّ في أنّ التحديد السابق “حتى الالتقاء بدجلة” أو “إلى ضفاف دجلة” كان تحديداً غيرَ جليّ كلّ الجلاء، ولم يكن بدّ من ترك التحديد مطاطاً ريثما يكتمل التحقيق في متناقضات المرويات التاريخية وفي ما اعتمده الكثير من كتّاب التاريخ”.
في أصل ومصدر اسم سوريا
يقول سعادة في شرحه للمبدأ الأساسي الثالث: ” وأصل اللفظة أُخذ من آشور كما يرجّح، وسُميت البلاد سورية، والسوريون ينسبون إلى البلاد”
د. بشار خليف يقول في دراسة له بعنوان ((سوريا الحضارة والاسم)): “في حوار لنا مع د. محمد محفّل سألناه: أنطون سعادة، طرح في الأربعينات من هذا القرن تسمية “الهوية السورية ” على هذا المزيج. إلى أي حد نستطيع أن نحدّد مدى اقترابه أو ابتعاده عن الحقيقة العلمية؟ حيث اعتمد على اشتقاق اسم سورية من آشور أو آسور..!
أجاب د. محفل :
“إذن دعنا نبحث في زمن ظهور تسمية سورية في التاريخ. التسمية بدأت تظهر منذ سقوط الدولة الآشورية حوالي 612 ق.م. وهذه التسمية لم تظهر في الوثائق المحلية. وأول ذكر لها ورد عند هيرودوت (المؤرخ اليوناني) في القرن الخامس قبل الميلاد وبعد سقوط نينوى عام 612 ق.م. الآن وفق ما طرحه سعادة من أن اسم سورية مشتق من آشور له ما يبرره لأن تسمية آشور قديمة جداً. ويمكن أن أزيد على هذا بأن هناك من يقول بدراسات آشورية وهي التي تعني الدراسات الأكادية والبابلية والآشورية.
ومن هنا يكون لهذه التسمية ما يبرّرها… وأود طرح مسألة تمس تاريخ الهلال الخصيب، (الكلام لا زال للدكتور محفّل) حيث إنه خلال فترة المدّ الإسلامي، كان هناك مؤرخون تحاملوا على هذه المنطقة منهم الطبري وابن خلدون، حيث سبّبوا عبر كتاباتهم التشويش والبلبلة وهذا ناتج عن عدم اعتمادهم على الوثائق لعدم توفرها آنذاك ولاقتصار معلوماتهم على ما سمعوه. فاختلط الخبر التاريخي بالأسطورة وتداخل الواقع مع الرواية وهذا ما سبب التشويه والبلبلة على حضارة الهلال الخصيب. إلى أن جاءت الاكتشافات التاريخية وألقت الضوء على هذه الحضارة “.ويستأنف د. بشار خليف ليقول أيضاً: “في حوار لنا مع د. نقولا زيادة سألناه: هل تقصد أن اسم سورية منحوت عن السريانية ..؟
أجاب : لا .. السريانية من سورية” .
الاعتبارات التي يرى المتقوّلون بسوراقيا أنّها تبرّر استخدامهم لهذه المفردة
- المستند الوحيد الذي يستند عليه المتقوّلون بسوراقيا أنّ سعادة ذكر هذه الكلمة فيما ورد في إيضاحاته بمقدمة الطبعة الرابعة المنقّحة لكتيب مبادئ الحزب وغايته … عام 1947 (الكلام الذي أوردته أعلاه) حين أجاب على سؤال بأن العراق جزء متمم للأمة السورية يجب أن يعود إليها ولو اقتضى تعديل اسم سورية إلى سوراقية.
- الدكتورة صفية سعادة (وهي من أبرز من يستخدم كلمة سوراقيا للتدليل على سوريا) تقول إنه لم يُتح لسعادة بعد عودته في 1947 لأن يصحّح اسم سوريا وإلّا لكان قد فَعل. (أي الوقت الضاغط والملاحقات ثم الاستشهاد).
- أن سعادة قال بسورية الطبيعية قبل ما ألحق العراق والكويت إليها، لذلك يقتضي التصويب بعد ضمّه له. (التعابير للدكتورة صفية)
- من لا يعرف فكر الحزب خاصة في الغرب يعتقد أنّنا نقصد بسورية الدولة القائمة حاليا (الكيان الشامي) وبالتالي هو عنوان خاطئ بشكل ما.
- العراق هو الجزء الأكبر من الأمة وبالتالي لا يمكن أن يُسمّي نفسه سوري.
- بعض القوميين ممن ذهبوا إلى العراق وعملوا فيه لفترة واحتكّوا مع بعض العراقيين أصبحت لديهم قناعة بأنّ العراقيين يمكن أن يقبلوا بالسير بما يقول به الحزب السوري القومي إذا قال بسوراقية، بينما من المتعذّر إقبالهم على اسم سوريا كون العراق لديه العصبية لتاريخه وحضارته، ولا يقبل أن يكون مُلحقاً بحضارة بلاد الشام.
ردودي على هذه الاعتبارات
آ – عبارة سعادة ” ولو اقتضى الأمر تعديل اسم سورية وجعله سوراقية ” تشي بالجو الحواري الذي كان قائماً بين سعادة ومحاوره أو محاوريه، بأنه بات مقتنعاً ومتأكداً بأن العراق جزء متمّم للوطن السوري، بينما محاوره يُبرز إشكالية التسمية، حيث كان سعادة قد اعتمد اسم سورية للأرض التي حدّدها في الطبعة الأولى ونقّحها في الطبعة الثالثة من كتيب المبادئ فأصبحت من البحر السوري غرباً إلى ضفاف دجلة شرقاً، وتبين له بعد استكمال أبحاثه وتدقيقه أن حدود الوطن السوري الشرقية هي الحدود الفاصلة بين وطننا السوري وإيران، شاملة كل العراق، وأن التسمية التاريخية “سورية” كانت تشمل كامل الحدود وفق نتائج سعادة البحثية، بينما محاوره لا زال يتمسّك أن العراق كمسمّى خارجها، حينها قال له سعادة يجب أن يكون العراق ضمن الوطن السوري لو اقتضى الأمر تسميته سوراقية. فلا أرى أبداً أن هذا الجواب يعكس اقتناع سعادة بصوابية التسمية، بل أن ما رغب بها إبرازه لأهمية إعادة العراق أو منطقة ما بين النهرين إلى الأمة السورية والوطن السوري.
ب – نقطة أن سعادة لم يُتح له الوقت الكافي لتصويب التسمية بعد عودته في 1947 إلى استشهاده في 1949، لا أجدها صالحة للاستناد إليها، فواضح مما أوردتُه فيما سبق، أن سعادة منذ 1938 كان قد استكمل بحثَه في هذه المسألة وتوصّل بعد زيارته لقبرص ومكوثه فيها عدة أسابيع بنفس العام إلى إجلاء مسألة الحدود الشرقية، وإلى دراسة حال الجزيرة جغرافياً وتاريخياً وبيئياً وكنسيج بشري.. فتبين له أن قبرص قطعة من الوطن السوري، فقرر منذ ذلك التاريخ اعتبارها كذلك. وبالتالي سعادة لم يكن قد توصل بدراسته هذه عام 1947، بل قبل ذلك بتسع سنوات كانت كافية ليعدّل اسم الأمة والوطن لو كان ما يتصوره المتقولون بسوراقية صحيحاً. وهاهو يشرح للمحقق البرازيلي أثناء توقيفه في البرازيل في نيسان 1939 “وأقصد بسورية سورية الجغرافية التاريخية. التي كانت موحّدة في دولة واحدة منذ قديم العصور… وسورية الطبيعية الحقيقية الجغرافية التاريخية التي أقول بها، وأدعو لتوحيدها … هي التي تتشكل اليوم من لبنان وفلسطين وشرقي الاردن والعراق والشام وكيليكية والاسكندرون”. من محضر التحقيق مع سعادة في البرازيل كما أورده الأمين نواف حردان في كتابه (سعادة في المهجر) – الجزء الثاني.
ج – يقولون إن سعادة قال بسوريا قبل أن يُلحق العراق والكويت وبالتالي يجب تعديل الاسم.. وكأن سعادة برأيهم أوجد أمة بحجم معيّن وأطلق عليها اسماً يناسب حجمها هو اختاره، وبالتالي أيّة إضافة لهذه الأمة تستوجب تعديل اسمها!! لا، ففي الحقيقة ليس سعادة من أطلق اسم سوريا على أمتنا، وليس هو من زرع حدودها، وهو يقول (ليس سعادة أول من قال أنّنا سوريون، بل هو من قال أننا أمة تامة) (المحاضرات العشر) بل هو من اكتشف وعيّن ذلك ببحثه وتعمّقه وتدقيقاته وتنقيحاته ولم يأتِ بشيء من عنديّاته، فالمنطقة كان اسمها سوريا ويقول سعادة ويوافقه الدكتور محفّل أنه على الأرجح مصدر التسمية من آشور، وأشور والدولة الآشورية كانت في منطقة ما بين النهرين فكيف يمكن لها أن تكون منطقة ما بين النهرين (العراق) خارجها واسم سوريا مشتق منها؟!! ثم حينما تقاسم الفرس والبيزنطيون سورية أصبحت سورية الشرقية وسورية الغربية كما يذكر سعادة، وكنسياً كانت المنطقة كلها تابعة لأنطاكية واسمها سورياٍ.
د – أما عمّا قد ينشئه اسم سوريا من التباس في الغرب جرّاء التطابق بين اسم الأمة السورية التامة وبين (سورية أو الجمهورية العربية السورية) وأن اسم سوريا يشكّل عنواناً خاطئاً كما تقول الدكتورة صفية سعادة ويجب تغييره لإزالة الالتباس، فهذا من أضعف المبررات وسأتناوله مع المبرر الذي يليه.
و– يقولون أن العراق هو الجزء الأكبر من الأمة وبالتالي لا يمكن أن يسمّي نفسه سورياً… ، وهذا برأيي مخالف لحقيقة وعمق ما يطرحه سعادة كجواب على سؤال من نحن، فنحن وفق ما توصل إليه، سوريون .. في العراق، وفي الشام، وكذا في كل الكيانات السورية، بغض النظر عن كبر وصغر أيّ كيان.
ثم ما هو منطقهم الذي يرى أن الكيان الأكبر من كيانات الأمة له الحصة الأميز من غيره في تسمية الأمة؟! وكأننا نجمع أجزاء متباينة الحجم والشكل، وللأكبر منها حجر الأساس أو المركز!! هل يمكن لنا بهذه العقلية أن نقيم الوحدة السوريّة، ونحن نستخدم مسطرة وتوازنات ومفاهيم الغرب المستعمر في تقسيم بلدنا فنسعى لجمعها أجزاء متنافرة متباينة تُباعدها حساسيات على غير صعيد، ونراعي أيضاً في تسميتها وما يمكن أن يلتبس عليه أو ما لا يلتبس؟!!
ثم إن كنا سنقيم الاعتبارات للحساسيات الكيانية التي أنشأها المستعمران الفرنسي والانكليزي، فماذا سنقول للبنانيين والأردنيين وغيرهما؟ وهل علينا ابتكار اسم للأمة يتضمن كل أحرف كياناتها إرضاء لعصبياتهم الكيانية المتنافرة؟!!
قد يفيد التذكير هنا بأن سعادة كان قد واجه في بداية تأسيسه الحزب اعتراضَ بعض اللبنانيين على ما فهموه بأنه يرغب بضم لبنان إلى سورية (الشام) فمازحهم بقوله: لا أبداً، بل أنا أرغب بضم سورية إلى لبنان، فقال له أحد شيوخهم (إذا هيك نحن معك). العبرة من ذلك أننا سنواجه هذا التمترس الكياني في كل كيانات الأمة ولا علاج له إلا بتنامي الوعي بحقيقتنا، وزرع الإيمان بهذه الحقيقة وامتلاك إرادة العمل على نصرتها.
ز– في نقطة أن بعض القوميين ممن ذهبوا إلى العراق وعملوا فيه لفترة واحتكّوا مع بعض العراقيين فتشكّلت لديهم قناعات بأن العراقيين يمكن أن يقبلوا ما يقول به الحزب السوري القومي الاجتماعي إذا قال بسوراقيا لكن من المتعذر إقبالهم على اسم سوريا كون العراق لديه العصبية لتاريخه وحضارته، ولا يقبل أن يكون مُلحقاً بحضارة بلاد الشام…. هنا نلاحظ أن القوميين في احتكاكهم مع السوريين في الكيان العراقي يتحاورون في كيف يمكن أن نتوحّد قبل أن يوجدوا الوعي القومي لهويتنا القومية، يبحثون بما هو متباين ويفرّق قبل ما هو يجمع ويوحّد، أي يقومون بما لفت إليه ونبّه منه سعادة بأن الوحدة السورية وكيفية حصولها ومراحلها وتدرّجها هو شأن سياسي له اختصاصيون، أما مهمتنا نحن فهي أن نُجلي الحقائق ونوحّد القناعات حول صوابية قضيتنا وتحديد ذاتنا… ويمكننا هنا الاستئناس بما قاله بخطابه في بشامون 3-10-1948 وهو يمايز بين إنجازنا الوعي القومي لهويتنا المجتمعية وبين الوحدة السياسية بقوله “نحن وحّدنا سورية قومياً أما سياسياً فهذا متروك لأهل السياسة. ولا تزال هنالك أسباب عائقة للتوحيد السياسي قياساً على مفهوم السياسة”، بما يعنيه عدم جواز أن نقيم اعتبارات لكيفية تحقيق الوحدة السورية ومرحلتها سياسياً فلها اختصاصيوها، أما نحن فما علينا إلّا أن نكون بكامل الصراحة الفكرية النهضوية.
من ناحية أخرى أقول بكل تقدير لرفقائنا ممن يعتقدون بذلك، بأن هذا التقصّي هو سطحي وعاطفي، فالعراق اليوم بكيانه السياسي الراهن منقسم على ذاته، فكيف لنا أن نعتقد أنه سيوافق على مشروع كبير مثل وحدة الأمة السورية بمجرد أن نعدّل الاسم إلى سوراقية؟!! ومن الذي سيضمن لنا إن غيّرنا الاسم أو حوّرناه سيصبح العراق مستعداً لتقبّل مشروع الحزب السوري القومي الاجتماعي؟!! فلا يجوز أبداً أن تغرينا الأهداف السطحية فنقبل بتنازلات على حساب جوهر قضيتنا، لأننا بذلك قد نخسر القضية أو نشوّهها، ولا نضمن النجاح في مضمار السياسة.
وحول أن العراق يعتزّ بحضارته وتاريخه فلا يقبل أن يكون ملحقاً بحضارة بلاد الشام، فإن هذه الفكرة هي عَرضٌ من أعراض التجزئة القومية، وغيابِ الوعي والمعرفة للذات والهوية، ولدى الحزب السوري القومي الاجتماعي نظرة موحّدة ومتكاملة لكل الأشكال الحضارية والتاريخية في مختلف مناطق الجغرافية السورية، بأنها حضارة سوريّة لا يتقدم فيها أحد على الآخر بالقيمة والتقدير إلا بما تتقدم حاسة البصر على حاسة السمع في الجسم الواحد!
ن – في معظم ما قرأت عن تاريخ المنطقة، وممّا استعرضه سعادة لم يُلمح أبداً أنها سُميت بأي فترة من الفترات باسم سوراقيا، ولا بأي جزء منها، فلمَ هذه المخارج الشكلية التي لا فعل لها إلا زيادة في تعكير ما نسعى لتصفيته وتنقيته، ولا أثر تحدثه إلا الإلتهاء والزوغان عن طريق النهوض الصحيحة!!
هل يمكن اعتبار التأكيد على استخدام اسم سوراقية شططاً فكرياً؟
برأيي لا يمكن أن ننّزه هذا الطرح من أنّه يعتريه الشططً الفكري كطرح الواقع اللبناني الذي واجهه وصوّبه سعادة واتخذ قرارات قاسية إزاءه، فإن كان بعض القوميين أو الغيورين والمهتمين بقضية الحزب السوري القومي الاجتماعي، يطرحون اسم سوراقية بدافع إزالة العصبية الكيانية وتسهيل درب تحقيق الخطوات التوحيدية بين كيانات الأمة السورية، نجد نعمة ثابت وأعوانه في طرحهم فكرة الواقع اللبناني يرتكزون على مبررات مشابهة، أو مطابقة لهذا الطرح، هي بالمضمون سياسية تهدف مرحلياً لرفع العوائق السياسية التي وجدوا ضرورة القفز فوقها.
الأمين عبّود عبّود في مقالة له بعنوان “صورٌ من تاريخ الحزب” نشرتها مؤسسة سعادة للثقافة، يعرض وجهة نظره في هذا الموضوع، ويستعرض خطورته بحوار (متخيّل على الأرجح) بين سعادة ونعمة ثابت، يوضّح فيه مدى خطورة فكرة إقامة الاعتبار للخصوصية اللبنانية، وموقف سعادة من مبرراتها فيورد الأمين عبّود الحوار التالي:
سعادة: ماذا فعلت بحزبنا يا أمين نعمة؟
ثابت: حضرة الزعيم، أنت تعرف الوضع في لبنان، فاللبنانيون المسيحيون، الموارنة خاصة، يتخوفون من عبارات مثل “سورية” و “لتحي سورية” و “السوريون” الخ… وما حصل هو مجرّد اسلوب سياسي دبلوماسي لجعل النفوس تطمئن الى الحزب وترتاح إلى أعمال رجاله.
سعادة: لكن يا أمين نعمة هناك طريقان لعدم إخافة الناس وجعل نفوسهم تطمئن للحزب، هناك الطريق التي اتبعتموها والتي كانت نتيجتها خسراننا لعقيدتنا وحقيقتنا. ذلك لأن المبدأ الإذاعي الذي اعتمدتموه يؤدي إلى تلك النتيجة، وهذا المبدأ مفاده أن نكون لبنانيين مع اللبنانيين، أردنيين مع الأردنيين وأكرادَ إذا وُجِدنا في وسط كردي، فنُفصَّل على قياس الانقسامات الكيانية كلها والعرقية كلها والمذهبية كلها. فتكون النتيجة الباهرة التي ذكرناها، وهي خسران في خسران لعقيدتنا وحقيقتنا وقضيتنا القومية الوحدوية النهضوية. ويبرز آنئذ السؤال التالي: لماذا كل هذا العناء؟ لماذا كل هذه الحركة القومية الاجتماعية؟ لماذا الآلام والسجون والتشرّد؟ لماذا الحزب السوري القومي الاجتماعي إذا لم تكن قضيته حقيقة تساوي وجودنا وحياتنا ونهوضنا وتقدمنا؟
فخطابكم يا أمين نعمة عن الواقع اللبناني معناه خطابكم عن موت الحزب السوري القومي الاجتماعي وإحياء للأفكار الانعزالية والكيانية. إن السياسة من أجل السياسة ليست عملاً قومياً. أما الطريق الثاني يا أمين نعمة، لجعل النفوس تطمئن، فهو أن تتوجّهوا إلى شعبنا بالتعاليم القومية الاجتماعية التي جوهرها حقيقتُه ومصلحةُ حياته وتقدّمه… فنشرح لهم حقيقة أفكارنا وأننا لا نعني “بالسوريين” جماعة مذهبية معينة، وإنما نعني بالسوريين كل أبناء أمتنا، فهناك سوريون من لبنان وسوريون من الأردن الخ.. بإتباعنا هذا الطريق نكون قد حفظنا عقيدتنا وحقيقتنا وربحَ شعبنا قضيته القومية الاجتماعية. فأي الطريقين اتبعت يا أمين نعمة؟
نعمة: لا أعرف كيف حصل ذلك.
سعادة: كان سبب ذلك إغفالكم درس عقيدة الحزب وتاريخه. فبالدرس تظهر لكم عظمة القضية القومية الاجتماعية وتظهر لكم أهمية الاعتصام بحبلها مهما كانت تلك التضحيات. كان يجب أن تهون كل التضحيات دون العقيدة. ما حصل هو أنكم ضحيتم بالعقيدة لمصلحة الأفكار اللبنانية الانعزالية. فبالإضافة إلى خروجكم العقائدي، تَسجَّل عليكم عدم قيامكم بواجبكم ألا وهو الحرص على حصول الثقافة القومية الاجتماعية العميقة لكم ولأعضاء الحزب، الذين قبلوا الخروج العقائدي بعامل النظام والجهل لما حصل منكم، وليس بسبب الرضى عن شذوذكم العقائدي.
لو أستعرضنا التبريرات التي اتكأ عليها نعمة ثابت، لوجدناها مشابهة لدوافع وتبريرات من يقولون بسوراقيا وبالتالي تقع في نفس الشطط، فاللبنانيون لديهم المخاوف والحساسية من اسم سورية وكذلك العراقيون كما يقال، وبالتالي يرون ضرورة إعطاء هذه الاعتبارات حقّها، ومراعاة الحساسيات الكيانية، وأقلمة طروحاتنا حسب ما يمكن للكيانات من تقبّله… فهل هكذا يكون عملنا قومياً اجتماعياً صالحاً؟!
إن عاتب سعادة بعد عودته من الاغتراب القسري القوميين الاجتماعيين على سكوتهم وتقبلهم طرح “الواقع اللبناني” بعامل النظام، فإني أراه اليوم يطالبنا بعدم تقبل فكرة سوراقية مهما كانت دوافع ونوايا من يقولون بها.
ثم إن كانوا يرون ضرورة إضافة ما يشير للعراق بعد أن أدخله (وفق تعبير الدكتورة صفية) سعادة في الأمة السورية حسب وجهة نظرهم، فماذا عن قبرص التي هي أيضاً (أضيفت) بنفس الفترة، أما تستدعي أن نضيف بعضاً من أحرفها إلى اسم الأمة؟!!.. إن المسألة أيها القوميون هي مسألة وعي اجتماعي قومي، وتحقيق المعرفة والادراك للهوية والذات التاريخية، وحين حصولها سيرتفع شعبنا فوق كل العصبيات الكيانية والطائفية والعرقية التي أوجدها المستعمرون.
سعادة في خطاب له بعين زحلتا في 30 أيلول 1948 يقول حول موضوع تحوير اسم الحزب بما يهوّن على بعض السوريين من هنا أو هناك تقبّلهم له “نسمع من بعض الجهات بعض اقتراحات منها: لماذا لم تسمّوا الحزب السوري القومي الاجتماعي، الحزب اللبناني القومي الاجتماعي؟ ونسمع من جهة أخرى عبارة استفهامية: لماذا لم تسمّوا الحزب، الحزب العربي القومي الاجتماعي؟.. الأولون يقولون: لو أنكم سميتم الحزب، الحزب اللبناني القومي الاجتماعي، لرأيتم اللبنانيين بأجمعهم يسيرون في هذا الحزب. ومثل هذا القول يقول الذين يطلبون تسمية حزبنا بالحزب العربي قائلين: لو فعلتم هكذا لانضم إليكم العرب في كل العالم العربي”.
ويجيب سعادة في نفس الخطاب ” نحن نقول بمبدأ جوهري، مبدأ الصراحة ومعالجة المرض في أساسه. نحن لا نظن أنّ طلاء القصدير بالفضة والنحاس بالذهب يعطينا فضة أو ذهباً، بل يبقى القصدير قصديراً والفضة فضة. ونجده في نهاية الخطاب يقول: “إنّي أكرّر ما قلته، لا يخشين أحد من اللبنانيين قولنا تحيا سوريا في لبنان…” وبالإسقاط يمكن أن نتوجه بذات الخطاب إلى العراقيين ولكل السوريين في باقي الكيانات فاسم سورية ليس اسماً للشام، بل لكل الأمة.
ويستأنف قوله ” ماذا نقصد من الأسماء؟ الأسماء بذاتها ليست خيراً، بل الخير الذي نقصد هو في ما تعني الأسماء. نحن لا نقصد الخير لمجرّد الخير ولا نرى الخير في اسم سورية مجرّداً. إننا لا نطلب الله لمجرّد اسم الله بل لأنه رمز للخير. وحين يبطل أن يكون كذلك تبطل محبته من قلوب الناس.
الأسماء في ذاتها ليست ما نطلب، بل طلب الخير الذي يكون من ورائها” وذلك في تدليل على أننا نرى كل الخير في اسم سورية لأنها اسم أمتنا وليس لشيء آخر.
خاتمة
إن الصعوبات التي واجهها سعادة في بدايات تقصّيه حقيقة من نحن، والتي أوضح مداها وأسبابها، واضطّراره للتأسيس سريعاً على النتائج العريضة التي توصّل إليها فأنشأ الحزب وتنكّبَ النهضة التي رأى ضرورة مباشرة أعمالها لوقف حالة الضياع والتيه التي كانت تتخبط فيه أمتنا، مع إصراره على استكمال الأبحاث للوصول إلى إجلاء تام للحقائق، لا يعطي هذا البعض أحقيّة التشويش على عظمة ما توصل إليه وأسّسه.
كما أنه ليس شأناً اعتباطياً أن نبدّل أو نغير ما أقرّه سعادة بشكل فردي دون أن يدرس الحزبُ بهيئاته المختصة جواز هذا التعديل. نحن نعمل في سياق نهضة منظمة لا بل بالغة التعقيد والتنظيم لأنها بالغة الأهمية والخطورة، فلا يُجاز فيها تحويرات جوهرية يقوم بها أفراد.
إن القول بسوراقيا بديلاً عن سوريا برأيي ليس مبرَّراً أبداً، إن لم أقل أنه يقارب الشطط الفكري الذي تم ارتكابه أثناء وجود سعادة في مغتربه القسري، حين تم طرح الواقع اللبناني، ولولا تصدي سعادة حينها بشخصه لهذا الطرح لكان قد تمّ تعميمه ليفرّخ الواقع الشامي والواقع العراقي ..الخ
الأمر هنا لا يقع تحت قُدسية أو طقسية جامدة، إنما تحت دقّة قضية لا يُسمح بتمييعها. كما أنه ليس تصلّباً أو تساهلاً في تحديد اسم الأمة، فهو ليس بحد ذاته غاية الغايات، لكن علينا أن نتذكر أنه لم يكن لدى سعادة مجموعة أسماء يختار منها أجملها أو ألطفها ليطلقه على الأمة التي شكّلها ووضع لأجلها نظريات مبتكرة من عنديّاته…. لا فسعادة لم يحدّد من عنديّاته لا جغرافية الأمة ولا اسمها، والذي كان سوريا منذ القدم، وهذه الحقيقة يجب ألا نغفل عنها أبداً. وما ذكره من عبارة (لو اقتضى ذلك تبديل الاسم) جاء لأهمية تحقيق وحدة الأمة بكامل أجزائها، وتقدم ذلك على كل اعتبار.
كان واضحاً لدى سعادة رفضُه أن نتجاوز عدم النضج القومي وتحقيقَ الوعي حول الذات القومية بتزيينات وتلطيفات دبلماسية سياسية ويبدو ذلك جليّاً حين قال: “لا نظن أنّ طلاء القصدير بالفضة والنحاس بالذهب يعطينا فضة أو ذهباً” فعلينا إذاً العمل على الجوهر قبل اللمسات الظاهرية.
ممّا سبق يتبين لي أن هذا كلّه ما هو إلّا سباحة في مياه غير نقية، وسورية الوطن وفق سعادة هي ما يُطابق جغرافياً مسمى الهلال السوري الخصيب مع نجمته قبرص، والذهاب لغير تسميات مجرّد الهاءات تبريراتُها واهية جدّاً، والزعم أن ذلك يساعد في توحيد قوى وكيانات الأمة بعد إزالة حساسيات التسمية ما هو إلا مضيعة للوقت، وتشويش على الحقيقة، فالأمة لا تتوحّد بهذا الأمر البسيط والشكلي كتغيير أو تعديل أو تحوير في اسمها، بل بتحقيق الوعي القومي لحقيقتها وإيجاد إرادة العمل لنصرتها.
___________________________
اقرأ في فضاء هذا الموضوع وللكاتب نفسه: بين راهنيّة فكر سعادة وحاجته للتطوير
مقال ممتاز.