العالم الآن

سقوط الدولة المذعورة!

العراق: نموذجاً

يفصح سقوط بغداد المسرحي والباهت “درامياً” عن إشكالية “الدولة الكيانية” في نشوئها وصياغتها لذاتها، كما في قدرتها على حماية مشروعها واستمراره. حيث يعود نشوء الدولة إلى ذلك التشريح الجراحي للجغرافيا السياسية للأمة بما أنتج كيانات سياسية محكومة بأوصاف جغراسية منقوصة تُبقيها أو تعمل على استمرارها كـ “أمر واقع مفعول”، ولكن تحت العتبة ما قبل القومية.

هكذا ارتسم العراق كياناً سياسياً كأحد مستولدات “الخارطة التشكيلية” الملّونة والمرقمة التي جاءت ممهورة بتوقيع “سايكس – بيكو – 1916″، حيث سيتحول الحرف “ب” في اللوحة إلى المملكة العراقية عام 1921 بعد إجراء جراحة تجميلية عليها، ثم ستتحول المملكة إلى جمهورية ابتداءً من العام 1958، لتعود راهناً إلى “مصنع التشكيل” الأميركي هذه المرة، الذي يساعده خبير إنكليزي عريق.

وعلى ذلك تأسّست إشكالية الدولة كمفهوم ووظيفة، مع تأسيس “الكيان” كوجود منقوص وقابل للارتكاس خلفاً نحو تشكيلات اجتماعية مناهضة للدولة المركزية ودورها، وتؤصّل ذاتها على نحو طائفي – مذهبي – عشائري في منهج شديد الإيحاء على قدرتها على المحافظة على ذاتها تاريخياً، رغم وقوعها الدائم تحت نفوذ قوى خارجية، عملت دائماً على توفير العوامل التي تمكن هذه التشكيلات من الاستمرار، بما يحيلها إلى “موجودات مستقلة” أو موهومة باستقلال مزعوم لا تخرج آلياته عن قوانين الطائفة – العشيرة.

كما يظلّ مجال وجوده محكوماً بالامتدادات الديمغرافية، لا السياسية. وبالرغم من وضوح النزعة المركزية في مشروع الدولة الكيانية، إلاّ أنّ هذه الدولة وفي سياق صوغها لذاتها، ليس لم تنجح فقط في بناء “مركزية” قادرة على تفكيك “الغلاف السياسي” للتشكيلات التقليدية، بل إنها عملت على نحو واضح على دعم هذا الغلاف وزيادة سماكته عندما استعارت هي نفسها آليات هذه التشكيلات في محاولاتها لتأكيد وجودها وحمايته. فانقلبت مركزية الدولة إلى نقيضها، وبدا مشروع الدولة كأحد مشاريع التشكيلات الطائفية – العشائرية، ويتميز عنها بقوته وسيطرته وامتداداته، فضلاً عن اعتماده خطاباً أيديولوجياً هو نفسه، في حالة خصام معه ولكنه يشكّل في الوقت نفسه “الصفة المعلنة” التي تميزه عن “صفته المستترة” في بنيته وآليات عمله.

ها هنا، يبدو مناسباً التفسير الخلدوني لنشوء الدولة وزوالها، إذ دفعة واحدة، اتجهت “الدولة” لتأسيس مشروعها معتمدة “العصبية” القبلية ولكن بوجهها الحديث “الخبيث” الذي يتنكّر بالتزويق الأيدويولوجي “المركزي النزعة”. وإذ تتم استعادة نظرية ابن خلدون، تبدو “المدينة” هنا، المكان المتنَازَع عليه، والذي فيه تتحلل “العصبية القبلية” وتتفكك مقابل هجوم “قبيلة” طَرَفيّة لا تزال متماسكة بفعل عصبيتها الخام.

على أنّ مشروع الدولة العراقية، لم يخضع لهذه الصرامة المنهجية في صوغ ذاته، إلاّ في حقبته الأخيرة الممتدة خلف قرابة ربع قرن، فيما تصدرت “الأيدولوجيا” هذا المشروع في أعقاب حركة 14 تموز 1958، ورسخّت صدارتها بعد حركة 8 شباط 1963 التي قادت حزب البعث العربي الاشتراكي إلى قيادة الدولة، ليحكم العراق على نحو نهائي، بعد حركة 17 تموز 1968، وحتى 9 نيسان 2003.

وإذ يرتكس مشروع الدولة الأيديولوجية في آلياته، نحو استعارة “عصبية قبلية طائفية” ملفّقة في محاولته مركَزَة السلطة وتقوية عودها، فإنه يضع نفسه في إطار الصرامة المنهجية الخلدونية التي تفترض تحللاً لاحقاً لهذه “العصبية” وانعزالاً كاملاً لها يبعدها عن مختلف التشكيلات والعصبيات الأخرى. هنا، بالضبط، تكتمل الأوصاف التي تحيل مشروع الدولة إلى حقل “الدولة المذعورة” من نفسها وغيرها. ومع دخولها هذا الحقل تتأكد حالة الفصام بينها والمجتمع، فتبدو بعيدة عنه بمقدار ما هو بعيد عنها، وخائفة منه بمقدار ما هو خائف منها.

تحول “الدول المذعورة” دون تمكين المجتمع من الاقتراب منها، بكونها لا ترى فيه إلاّ مشروع انقلاب عليها كامن في عصبيات خامدة مشابهة لعصبيتها المتقدة، ومع عمق وعيها لذاتها وتكوين مشروعها، يتعمق وعي “الدولة المذعورة”، بالمجتمع وقوته، ولكن وفق المرآة العاكسة التي لا تراه إمتداداً لها، وإنما بديلاً منها. وبذلك تنقلب “النزعة المركزية” لمشروع الدولة إلى “نزعة ديكتاتورية” تعمل دائماً على مركزة السلطة في واقعها وتشريعاتها وآلياتها، مقابل تهميش المجتمع الذي يواظب على موالاته المعلنة لمشروع الدولة، الذي لا يشكل، بحالته هذه، إلغاءً لتشكيلاته، فتبدو هذه التشكيلات مهادنة مرة، ومناهضة مرات، وحيادية إزاء امتلاء المسافة بينها ومشروع الدولة، بمشروع خارجي مضاد وأقوى منها ومن الدولة على حدّ سواء.

إزاء ترسيمة كهذه، تحيل “الكيان – الدولة” إلى ديكتاتورية “الدولة المذعورة” من جهة و”مجتمع مهمّش” وحيادي من جهة مقابلة، يقع مشروع الدولة، بأوصافه الجيو-سياسية في حقل مكشوف على مختلف الاستراتيجيات الإقليمية والعالمية.

هكذا بدا العراق بالأخطاء الاستراتيجية الكبرى – التي لا نتناولها كلها هنا – التي ارتكبتها (الدولة) فيه، فريسة مضمون القبض عليها، من قبل الجيوش الأميركية الغازية. التي بوضعها الراهن، احتلت المسافة التي تشكّل “حالة الفصام” بين المجتمع و”الدولة المذعورة” وكان سهلاً عليها إلغاء “الدولة” مُوَّسعة مساحة احتلالها، ولكنها بقيت على تخوم المجتمع الذي يتجه لتحويل “حياده” تجاه هجومها على “الدولة” إلى “دفاع” عن ذاته تجاه مقتضيات هذه الاستراتيجية، وصولاً إلى التحرر منها، والعمل على إنتاج “دولته” الوطنية مرة أخرى.

ومع امتلاء المساحة الفارغة التي انتجتها “حالة الفصام” بين الدولة والمجتمع، بوجود خارجي، لا يبدو المنهج الخلدوني مناسباً وقابلاً للإحاطة بحركة يفترض أن تتجاوز حدود العصبية “القبلية – الطائفية” نحو صوغ نفسها كحركةٍ عراقية وطنية ستجد نفسها مدفوعة لاستعارة آليات مشروع الدولة الكيانية في رحلتها الاستقلالية عن الانتداب الإنكليزي المُشرّع دولياً في مؤتمر سان ريمو 1920.

وإذ يفترض هذا المنطق استعادة المجتمع لـ”آليات الاستقلال” فإنه يفضي في الوقت نفسه إلى أنّ الاحتلال الأميركي سيعمد هو على نحو أكيد، إلى “إنتاج الدولة” مثلما عمد الإنكليز إلى إنتاجها عام 1921 بتصنيفها “مملكة” على رأسها الملك فيصل. ووفق هذه الاستعادة تعود إشكالية الدولة الكيانية لتأسيس نفسها في بنية “الدولة الموعودة”. واستكمالاً لهذا “السيناريو” التاريخي المستعاد، تبدو “حالة الفصام” قدراً قادماً متحكماً بعلاقة مشروع الدولة مع المجتمع، إلاّ إذا استطاع المجتمع العراقي من صوغ قوته على نحو يمكنه من استعادة آليات الاستقلال وتجاوز إشكالية الدولة الكيانية بأوصافها الجيو-سياسية، وإنتاجها كمقتضى لازم، وكمفردة حكيمة من مفردات الاستراتيجية الأميركية التي تبشر بامتدادها المستقبلي إلى أجلٍ غير مسمّى؟!

جاء سقوط بغداد مثالاً ومآلاً لمصير “الدولة الكيانية” في تحولها إلى “دولة مذعورة” ومع هزيمتها يستعيد المجتمع نفسه، ولكن على النحو الذي يضعه في مواجهة المشروع الأميركي المضاد. والصراع الراهن، بهذا المعنى، يبقى على الحرية والسيادة، ولكنه في الوقت نفسه، يتشخصن حول الإشكالية المرتمسة حول السؤال المصيري الكبير:

من سينتج دولة العراق المستقل والسيد؟ّ!

وإذا لم ينجح المجتمع في إنتاج دولته، فإنّ العراق سيكون المكان الذي يختزل التاريخ نفسه فيه مساراً دائرياً مغلقاً، ومنهجاً لاهوتياً مقفلاً!.

——————————————————————————-

تنويه: مصدر المقال: مجلة فكر – العدد 80 كانون الثاني – أيار 2003.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق