(فيتنام بايدن)، مصطلح وضعه مايكل هيرش، الكاتب في مجلة فورين بوليسي، كثّف فيه اللحظة الأميركية – الأفغانية الراهنة. المصطلح يشير بوضوح إلى أنَّ الولايات المتحدة الأميركية تتلقى هزيمة موازية لهزيمتها في فيتنام منذ نصف قرن.
الإجماع على هزيمة واشنطن، يجد تعبيراته عند الحلفاء الأوروبيين – الناتو -، كما عند الأعداء كإيران والأخصام كالصين وروسيا ومعهم غالبية دول العالم ومنظماتها. كما يجد تعبيراته وبالدرجة الأولى في الولايات المتحدة نفسها، في الأوساط الديمقراطيّة والجمهوريّة على السواء. وصل الأمر بالرئيس السابق دونالد ترامب إلى الحد الذي قال فيه إنَّ ما يجري في أفغانستان هو أكبر هزيمة تلقتها الولايات المتحدة بتاريخها!! سيفتح هذا الإجماع مع هذه اللغة التي تصف الحدث الباب واسعاً للتساؤل إنْ كانت الإمبراطورية الأميركية قد دخلت حقبة التراجع عن نفسها ومعناها وقوتها؟ وخصوصاً أن الرئيس جو يايدن، وفي إطار مواجهته لـ (فَتَنَمَةِ) الانسحاب والإجلاء لم يجد بداً من استخدام المقولة الرائجة: أفغانستان مقبرة الامبراطوريات. وبهذا الاستخدام يبدو بايدن كمستسلم لـ (حكم التاريخ) الذي هو القضاء والقدر.
رغم ذلك، ثمة ما يدفع لـ (الريبة المنهجية) بهذا الاجماع. بل قد يكون من الضرورة مقاربته والتحرّش به للوصول إلى رؤية العوامل المؤكدة له والناتجة من موضوعه (الهزيمة) على النحو الذي يقدمها كـ (بدهية) كما يُروِّج لها الآن.
قد يكون الحديث بلغة مخالفة لهذا الإجماع نوعاً من المغامرة التي سيُنظر إليها باعتبارها (نشازاً) في إيقاع واحد يُؤدى في الشرق والغرب على تواتر عمليات الإجلاء الدراماتيكية من مطار كابل والتي أخذت طابعاً مأساويّاً مع التفجيرات التي أدت إلى عشرات القتلى والجرحى من الجنود الأميركيين ومن مقاتلي طالبان والأفغان المدنيين، والتي تم تحميل مسؤوليتها إلى تنظيم الدولة (داعش). وبالرغم من ذلك كلّه يحمل هذا الاجماع نفسه من المعاني ما يدفع إلى مواجهته بسؤال الشكّ في طبيعته وأسبابه، وإنْ كان فعلاً يمكن النظر إليه كتعبير عن (ظاهرة مطلقة / هزيمة الولايات المتحدة)… ظاهرة غير خاضعة للمراجعة وغير قابلة للمناقشة ولا يمكن التشكيك بحصولها أبداً؟!
السؤال – المفتاح، الذي يؤسس لهذه المقاربة يقوم على افتراض الحالة المعاكسة، أي: الولايات المتحدة مع حلفائها في حلف الأطلسي انتصرت في أفغانستان. ماذا يعني هذا الانتصار؟ وما هي تعبيراته ومظاهره؟
الجواب التلقائي – المثالي – يكمن في رؤية أفغانستان دون حركة طالبان التي تم القضاء عليها، محكومة من دولة مدنية – علمانيّة، يقف جيشها في مطار كابل في صف شرف احتراماً لخروج الجيش الأميركي / الأطلسي من بلاده، بعدما أنجز مهمته بنجاح تام، فيما أهالي كابل يلّوحون بالأعلام الأميركيّة والأفغانيّة دون أن يحتاج أي منهم لتسلّق جناح طائرة عسكرية مغادرة ومن ثم السقوط منها جثة هامدة.
هذه الرؤيّة للانتصار المُفترض، هل كان لها أن تتجسد واقعاً أو أنها من عالم (المثالية السياسيّة) الذي لا يوجد إلاّ في الكتب والنصوص الأدبية؟
يحيلنا هذا التعبير المُتخيّل عن الانتصار، إلى المدى الزمني المعاصر الذي يبدأ مع دخول قوات الاتحاد السوفيتي أفغانستان في العام 1979 ويصل إلى هذه اللحظة التي تُرى فيها القوات الأميركية تخرج من أفغانستان. في هذا المدى يمكن معاينة الأداء الأميركي والوقوف إلى طبيعته ومآله وفلسفته ومعناه وما نتج عنه.
تستوقفنا في هذا المدى المحطات التالية التي يمكن أن تشكل منظار هذه المعاينة:
أولاً– عندما دخلت القوات السوفيتية أفغانستان 1979، إنما لمؤازرة حكومة ودولة مدنيّة في وجه التيارات الدينيّة. بالطبع وفي إطار الحرب الباردة في النظام العالمي الثنائي، وقفت الولايات المتحدة في وجه الاتحاد السوفيتي ودخول قواته إلى الأراضي الأفغانيّة. كان أمامها فصائل وحركات دينية متعددة كي تدعمها في هذه المواجهة ومعها السعودية وباكستان، ولم يتوقف الأمر عند هذه الدرجة، بل عملت على رعاية الأفغان العرب الذين تم استقدامهم للجهاد ضد (الكفّار السوفيت)، والذين في النهاية شكّلوا تنظيم القاعدة. وهذه الرواية أمست من بديهيات التاريخ السياسي العام.
ثانيّاً- عندما انطلقت حركة طالبان في العام 1994، تم احتضانها من باكستان كما حظيت بدعم ورعاية واشنطن، في إطار تعزيز نفوذها عبر منظمات وحركات محليّة في الخريطة السياسيّة الأفغانيّة التي كانت الحرب الأهلية مستعرة فيها، والتي حسمتها طالبان بدخول كابل وتأسيس الإمارة الاسلاميّة في أيلول 1996، التي ستحكم أفغانستان حتى خريف العام 2001.
ثالثاً- بعد أحداث 11 أيلول 2001، بدأت الولايات المتحدة حربها ضد تنظيم القاعدة وحكومة طالبان معاً. وقد تمكنت بعد عدة أسابيع (كانون أول 2001) من هزيمتها ودخول كابل. مع الولايات المتحدة حلفاء من 40 دولة تعمل في أفغانستان منذ عشرين عاماً وتخوض حرباً مفتوحة ضد ميليشيا طالبان التي تناقص عددها في هذا المسار إلى أقل من خمسين ألف رجل، ثم عاد ليزداد ويصل إلى أكثر من مائتي ألف رجل؟
رابعاً- توصّلت الولايات المتحدة إلى اتفاق استراتيجي مع حركة طالبان، تم التوقيع على وثيقته في الدوحة بتاريخ 29 شباط 2019. هذا الاتفاق أُنجز في عهد الإدارة الجمهوريّة برئاسة دونالد ترامب، وقد تبنته الإدارة الديمقراطيّة مباشرة. وعندما يحصل مثل هذا الاجماع في واشنطن، فهذا يعني أن القرار من مستوى استراتيجي رفيع ويتجاوز حسابات الحزبين سويّة. السفير ريان كروكر اعتبر أنَّ الولايات المتحدة (باعت الحكومة الأفغانيّة) باتفاقها مع طالبان فيما الرئيس بايدن يقول إنَّ الولايات المتحدة لم تدخل أفغانستان كي تؤسس دولة وتبنيها. يستمد هذا القول مصداقيته من تاريخ التدخل الأميركي في دول العالم والذي يشير دون مواربة إلى وقوف واشنطن ضد الدول العلمانية أو المركزية الحكم (تشيلي، يوغسلافيا، العراق….).
[ما يستلفت الانتباه هنا، أنَّ الملا عبد الغني برادار، الزعيم البارز في طالبان الآن، وهو من المؤسسين الأربعة لها، تم اعتقاله في العام 2010 ووضع في سجن بباكستان، وأفرج عنه في العام 2018، ومن ثم جيء به إلى الدوحة ليرأس المكتب السياسي للحركة فيها، وليقود المفاوضات مع واشنطن التي توجت بالاتفاق معها، وها هو يعود إلى كابل في 18 آب، ليتولى مهمة التنسيق مع القيادة الأميركيّة – هل الأسلحة التي تتركها القوات الأميركية وراءها، بكميتها ونوعيتها، تتركها بسبب من قصور لوجستي…؟!!].
تبدو هذه المحطات كعلامات بارزة في هذا المدى الزمني الذي في مجراه يمكن قراءة السياسة الأميركية في أفغانستان، غير أن استكمال هذه القراءة والوصول إلى خواتيمها لا يتم – برأينا – إلاَّ بالعودة إلى (رجل محوري) في هذه المسألة، وهو دون أدنى شك: دونالد رامسفيلد، الذي كان وزيراً للدفاع مع جورج دبليو بوش ما بين 2001 و2006. والذي يعتبر (المهندس) الرئيسي للحرب على أفغانستان 2001، كما للحرب على العراق 2003.
يُنقل عن رامسفيلد أنه بعد ساعات قليلة من سقوط أبراج نيويورك في 11 أيلول 2011، أشار على الرئيس بوش بأن يأخذ قراراً بضرب العراق!! دون أن يقدم أية حيثيات تربط أحداث نيويورك بهذا القرار؟ ولكن استقر الرأي أخيراً على ضرب أفغانستان، بعد تحميل أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة مسؤولية وقوع ذلك الهجوم ورفض حكومة طالبان تسليمه دون تقديم دليل يثبت مسؤوليته.
بعد سنوات قليلة انهالت الأسئلة على رامسفيلد، وكلّها تدور حول دلائل وجود أسلحة دمار شامل في العراق، تبين عدم وجودها. فما هي مسوّغات ضرب العراق وتدميره؟
أجاب دونالد رامسفيلد، بجمل ستصبح (منحوتة) بارزة في الأدب السياسي، قال:
[ثمة أشياء نعرفها، ونعرف أننا نعرفها. وثمة أشياء نعرفها، ولا نعرف أننا نعرفها. وثمة أشياء لا نعرفها، ولا نعرف أننا لا نعرفها]
في أثناء إنجاز شريطه الوثائقي عن رامسفيلد، في العام 2013، اقترح المخرج الأميركي إيرول موس على رامسفيلد إضافة أخرى تحت عنوان: المجهول المعلوم، وهو ما نعتقد أننا نعرفه في حين أننا لا نعرفه.
يقول مورس أنه بعد 11 يوماً (33 ساعة تسجيل قبل المونتاج) مع رامسفيلد: (أصبحت أقلّ معرفة بأسباب الحرب على العراق)!! فاستقر على عنوان لشريطه السينمائي هو: المجهول المعلوم – The unknown known
ما بين عنوان الفيلم الوثائقي للمخرج إيرول مورس (المجهول المعلوم) وعنوان مذكرات دونالد رامسفيلد (المعلوم المجهول)، وهي عبارات يمكن الشعور برطانتها اللغويّة وتصنيفها في خانة اللغو والثرثرة الفارغة، لولاّ أنها بالأصل من إنتاج رجل يعتبر (كبير الطباخين) في الغرفة الاستراتيجية للإمبراطورية الأميركية في حقبة عتاتها الأشداء: المحافظون الجدد.
… ما بين هذين العنوانين يمكن قراءة حيثيات ومقاصد حروب الولايات المتحدة: المجهولة المعلومة والمعلومة المجهولة، وخصوصاً في العراق وأفغانستان.
صحة القراءة هنا ترتبط بالحساب الذي نقرأ فيه، ودون أدنى شكّ، الحساب الأميركي يختلف في معناه ومفرداته وأرقامه عن حسابات الدول الكبرى كما الصغرى. هو: حساب امبراطوري بمفردات امبراطورية وعناوين امبراطورية.
كيف نقرأ في هذا الحساب؟
في السابع من تشرين أول 2001، بدأت الولايات المتحدة هجومها على أفغانستان. ومع انطلاق الصواريخ الأولى من قواعدها انطلقت مختلف الأقلام من محابرها لتكتب ما يمكن أن يشكل المقاصد الأخيرة من هذه الحرب، والتي بدا للتو أن مقصد الوصول إلى بن لادن والقضاء عليه مع تنظيمه لا يعدو كونه تفصيلاً بسيطاً بالحساب الاستراتيجي، وإن كان وجوده حتمياً لأسباب شعبوية – إعلامية، مرتبطة بجوهر الخطاب السياسي الأميركي القائم على عبارة: الحرب على الإرهاب.
أكثرت الأقلام والتحليلات من الحديث عن الثروات الاستثنائية الأفغانية، حتى لتبدو تلك البلاد كمنجم أسطوري بكر لا مثيل له ولا شبيه! كما أكثرت من الحديث عن البعد الجيوسياسي لأفغانستان على نحوٍ تم تصويرها بأهم عقدة جيوسياسيّة على هذا الكوكب! واستفاضت الأقلام في شروحات تتصل بأنابيب نفط وغاز كانت ستربط الصين بإيران وغيرها لولاّ أن واشنطن ستكون هناك وتقطع عليها هذا الطريق؟ كتابات وأحاديث وأرقام فلكية وأسماء ثروات استثنائية من الليثيوم إلى الحديد والصلب مروراً بالذهب؟
والأقلام المتعددة والكثيرة، ومع تصويرها للقوة الأميركيّة الجبارة، حذّرت من أن أفغانستان هي مقبرة الإمبراطوريات. حيث سبق لها وقبرت في العصور الحديثة وحدها الإمبراطورية الإنكليزية والإمبراطورية الروسيّة.
الآن، ومع ما جاء من تحليلات لمقاصد الحرب، وهي بمستوى ما قد تكون صحيحة، هل يمكن التيقن من أنَّ الولايات المتحدة، وبعد عقدين كاملين من هذه الحرب، ستترك كل تلك (المقاصد) خلفها، وتخرج من أفغانستان مهرولة لتتلقى حكم التاريخ الذي أعلنه الرئيس جو بايدن نفسه والذي يقضي بأن تكون أفغانستان مقبرة الإمبراطورية الأميركية كغيرها من الإمبراطوريات السابقة؟
ترتبط صورة البطل المنتصر، خصوصاً في الخيال الأميركي الشعبي، بعودته مع كل تلك المغانم والثروات التي قاتل من أجلها وقتل الكثيرين للحصول عليها كما خسر العديد من أترابه في سبيلها. صورة ليست مُفتقدة وحسب، بل إن مشهد الخروج من مطار كابل أثقل من الشعور بالهزيمة وربما كرّسها كبديهية ليس عند الأميركيين وحدهم وإنما عند مختلف الشعوب التي تتفرج على ما يُفترض أنه مشهد النهاية من عرض ابتدأ مع اصطدام أول طائرة بأحد أبراج مركز التجارة العالمي في مانهاتن.
كل ذلك قد يكون صحيحاً في الحساب العادي وتفصيلاته، فماذا عن الحساب الإمبراطوري وعناوينه؟
ابتداءً من 7 تشرين أول 2001، ستكون أفغانستان (المنصّة) التي ستظهر منها الإمبراطورية الأميركية، وفق النسق الذي كرّسها كقطب واحد في نظام عالمي محكوم بمقتضياته.
دون الحرب في أفغانستان، كانت ستفتقد واشنطن لـ (المنصّة)، وحكمها العالمي الواحدي كان سيبدو محدوداً وضعيفاً.
يستند هذا الحساب إلى قاعدة أن الحروب هي ضرورة بنيوية في النظام الامبراطوري، والامبراطورية تُهزم مع تحلل جسدها، أما معاركها البعيدة عن مركزها، فهي في إطار دورة حياتها الطبيعية. بهذا المعنى الحرب في أفغانستان، كما في العراق لاحقاً، وإن كانت لهما مقاصد جيوسياسية إلاّ أنها تندرج في الدورة الحياتية للإمبراطورية الأميركية وبنية نظامها. فإن خرجت الجيوش الأميركية من بلد كانت تحارب فيه، قد يعني خروجها أنَّ خصمها انتصر، ولكنها وبالمقابل هي لم تنهزم حتى وإن كان مشهد خروجها يشي بالهزيمة، بل تكون أكملت دورة حياة لا توجد إلاَّ في نظامها.
ماذا فعلت الولايات المتحدة في أفغانستان؟
حوّلت وظيفة تلك المنصّة من مقبرة الإمبراطوريات إلى مقبرة (العالم). فيها ومنها، قبرت الولايات المتحدة (عالماً) قديماً واستولدت (عالماً) بديلاً كانت فيه القطب الأوحد الذي أكسب الإمبراطورية معاني غير مسبوقة في تاريخ الامبراطوريات.
لماذا تخرج الولايات المتحدة الآن من أفغانستان؟
خرج جيشها، فيما هي لم تخرج. انتهت دورة حياة طبيعية تخصها.
المسرح الأفغاني يتهيأ لعرض آخر تكون الولايات المتحدة فيه كما إيرول مورس مخرج الشريط الوثائقي: المجهول المعلوم، وراء الكاميرا… تكون وراء الستارة. فيما البحث عن هزيمتها من مشهد الإجلاء، يأخذ معنى جواب رامسفيلد للمخرج مورس على اقتراحه: إنك تطارد الأرنب الخطأ.
المقالة غنية بالوصف التحليلي دون شك. واسباحة عكس التيار أمر صعب جدا.واحد من المرتكزات الموضوعة في خدمة المقال الا هو السلاح الحربي الأميركي المتروك في افغانستان قد تداعى على أثر تدمير قسم كبير من تلك الأسلحة كما تشير المعلومات الأخيرة. بالرغم من الاضاءات العديدة في الاجتهاد ومحاولة رؤية ما خلف الستار فاني لا أعتقد ان الكاتب المجلي استطاع أن يبرهن ما رمى اليه بأن ما يبدو لنا أنه هزيمة مذلة للقوات الغربية يحتضن انتصارا ستظهر نتائجه لاحقا.
الفكرة الرئيسية التي أردت إيصالها تكمن في أن الحرب الافغانية كلنت ضرورة بنيوية لتكريس الامبراطورية لنفسها كقطب واحد في نظام عالمي .
هذه المهمة تمت.
الانسحاب العسكري لا يلغي إنجاز هذه المهمة