ليس من المهم التحقق من كلام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، من أن (آثار المقاومة العثمانية) لا تزال موجودة وشاهدة على أن القدس مدينة عثمانية، فهي (مدينتنا) كما قال تماماً! بل ليس من الحكمة الاستعانة ببعثات تنقيب للاستدلال على آثار تعود لعهد إمبراطورية سيطرت على القدس لأربعة قرون وسنة (1516 – 1917)، فالتدليل على كون العثمانيين كانوا في القدس لا يحتاج إلى هذا العناء كله.
لكن وبسبب تلك (الآثار) يصرخ أردوغان: القدس مدينتنا؟ فذلك نهج (المصطلح الأدق: إفتاء)، يشرّع الباب واسعاً لعملية تصفية منهجية للتعاقب التاريخي، تناسب شعوباً أكثر من غيرها، غير أنها لا تناسب الشعب التركي ورئيسه على الاطلاق.
لا تاريخ تركيا الحديث، ولا ماضيها العثماني، ولا ماضي ماضيها السلجوقي، يعود بالمعنى الجيوسياسي، إلى ما قبل القرن العاشر. أي أنَّ عمرها التاريخي لا يتجاوز، حتى ولو وصل إلى سلجوق بن دقاق – الجدّ المؤسس – إلى أكثر من ألف عام بقليل. فيما (الرحلة العثمانية) السياسية في آسيا الصغرى، بدأت في مطلع القرن الرابع عشر، حيث حققت نجاحات متوالية، أوصلتها إلى الحقبة الإمبراطورية، التي انتهت مع انتهاء الحرب العالمية الأولى 1918، فتفككت، واستقر توضّعها الأخير على الجغرافيا السياسية للجمهورية التركية ابتداءً من العام 1923.
الجمهورية التركية، بماضيها العثماني، من أين جاء شعبها؟ وفي أية أراضٍ وضعت قبائلها رحالها؟ والمدن التي دخلتها احتلالاً لمن؟
بوضوح وإيجاز: وضعت (القبيلة/الموجة العثمانية) رحالها، منذ جدّها ومؤسسها عثمان بن أرطغرل، في أراضٍ ومدنٍ وأوطانٍ، جديدة عليها ومملوكة لغيرها. فهذه الموجة البشرية القادمة من آسيا الوسطى، اغتصبت بلاداً تاريخية واحتلتها بحدِّ السيف، واستوطنتها، وعملت دائماً بمنهجية الاستبدالات السكانية إلى أن وصلت إلى الحالة الراهنة التي نراها فيها.
بهذا المعنى، يمكن اعتماد مصطلح (الاستيطان السلجوقي/العثماني) لآسيا الصغرى، على التوازي مع اعتماد مصطلح (الاستيطان الصهيوني) لفلسطين والجولان، مع ملاحظة أسبقية الأول على الثاني. فمن الخطأ التاريخي اعتبار (المشروع الإسرائيلي)، وفق هذا المنهج، حالة شاذّة في التاريخ، بل هو حالة مكررة ومستنسخة ومقلدة لحالة سابقة لها بمئات السنين.
يمكن أن يعود أردوغان، سبعة قرون خلفاً لملاقاة جدوده، ويمكنه بالتأكيد تتبع آثارهم (الإنسانية/الحضارية)!، وستتوقف رحلته/تاريخه، حتماً في تلك اللحظة التي تمكّن فيها جدّه عثمان من احتلال هذه البلاد واستيطانها وتملّيكها لسلالته وقبيلته. قبل ذلك: لا تاريخ جيوسياسي له أبداً.
لسنا من سيروي على مسامعه، تاريخ المنطقة العليا من بلاد ما بين النهرين، التي شكّلت (المِنَصّة الأولى) التي منها، بدأ الانسان مسيرة الاستقرار في المكان ليشكّل الحالة التي مكّنت التاريخ من الولادة. لسنا من سيروي ذلك، بل سندع جامعات ومعاهد ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وروسيا والولايات المتحدة… وربما جامعات العالم كله.. سندعها تتولّى هذه المهمة، وإن كنا نثق أنه يعرف الرواية ويتجاهلها وينكرها؟
بسبب هذه الرواية، ربما، تجاهل تحذيرات علماء التاريخ والآثار، مع مختلف المنظمات الدولية ذات العلاقة، من أنَّ بحيرة سدّ أليسو على نهر دجلة، ستؤدي إلى غمر (هنسوكيفو/حسنكيف) البلدة التي هي أقدم مستوطنة بشرية على الإطلاق (12000 ق.م)! والشاهدة على أعظم شريط آثاري منذ العصر النيوليتي، مرورأ بالآشوري، ومن ثم الكنسي – حيث يوجد الكثير من المغاور والكنائس والمقابر في قلب الصخر- وصولاً إلى المملوكي، وإلى الآن.
رحلة شاقّة، هذه التي تصل إلى هذا العمق في الزمن التاريخي؟ حسناً، لنقصّر الرحلة، ولنسرد هذه الأسماء لمدن وأماكن لا تزال سمعتها الحضارية تشكل فصولاً كبرى من التاريخ الإنساني العام، ومن تاريخ آسيا الصغرى التي تتوضّع تركيا فوقها: قونية – أنيسرا – أسميرنا – انطاكية – ماردين – الرها – القسطنطينية…. أفسس (هل يسعفنا القديس بولس في التعرّف إلى هذه المدينة؟). هل من يؤازر ويسرد أسماء أماكن المجامع المسكونية السبعة للكنيسة المسيحية، من نيقية الأول (325 م) إلى نيقية الثاني ( 787 م) وما بينهما في أفسس وخلقيدونية والقسطنطينية؟
سستتوقف هذه الرواية، عند تلك الانتصارات التي مكنّت آل عثمان من احتلال كل هذه المدن وكل تلك الأراضي، واستيطانها، وتغيير بنيتها السكانية وثقافتها، بمختلف الوسائل من القمع إلى المجازر.
وفق منهج أردوغان: إن كانت القدس مدينته لأن فيها آثاراً للوجود العثماني ولـ (المقاومة العثمانية)، فلينظر في آثار وتاريخ تلك البلاد التي هو فيها الآن، وليكن وفيّاً لمنهجه، لمرة واحدة، وإذا ما كان كذلك، سيسارع، ودون تردد بالطلب إلى شعبه بالانسحاب من هذه البلاد والعودة نحو آسيا الوسطى: الوطن الأصلي للقبائل التركية.
أي: على الأتراك الانسحاب من تركيا.
يا ليتهم يفعلون.
لن يفعلوا إلاَّ مجبرين!
لك تحياتي
وهل تضمن إنسحاب إسرائيل من فلسطين وإنسحاب كل الأوربين الذين هاجروا وذبحوا الهنود الحمر وهل تضمن إنسحاب وعودة جميع العرب من الوطن العربي وعودتهم لليمن
التبسيط المنهجي الذي استخدمه أردوغان يقود إلى فنتازيا تاريخية مثل هذه، باستثناء المسألة الفلسطينية التي لا تزال راهنية ولم يطويها الزمن أو تدخل في تلافيف التاريخ
شكرأ لرأيك