-1-
انقضى ألف ومعه مائة عام على صلب الحسين بن منصور الحلاّج في محلة باب الكرخ في بغداد (26 آذار 922).
على أنَّ صليب الحلاّج لم يكن تلك (الخشبة) التي أفسدها كما تنبأ له أستاذه القديم (الجنيد البغدادي)، بل هو صليب الذاكرة الاجتماعيّة التي أنكرته وأبعدته ولم تسمح له بالإقامة في منازلها فطردته من محتواها، بالفتاوى الضاربة الكاسحة الصادرة بحقه، والتي أحالت أوراقه وكتبه إلى نتفٍ مذبوحة مرعوبة وهاربة من خناجر (الثِقات) الذين رفعوا جسده على الصليب، ثم قطّعوه، ثم أحرقوه ورموه رماداً في نهر دجلّة. فيما هو لا زال ينشد:
اقَتلوني يا ثِقاتي
إِنَّ في قَتلي حَياتي
وَمَماتي في حَياتي
وَحَياتي في مَماتي
.
.
فَاِقتُلوني وَاِحرِقوني
بِعِظامي الفانِياتِ
-2-
سيشتاق رماد الحلاّج، المقيم في أعماق دجلة، للكتب والكلمات والأوراق والحبر… سيشتاق ملوّعاً… إلى أن تمنّ عليه الحرائق التي طالت بعض مكتبات بغداد مع دخول المغول إليها 1258، فالتقى رمادها برماده، فيما كان نصير الدين الطوسي ينقذ ما أمكنه من (الكنوز الثقافية التي ليست من بينها كنوز الحلاَّج التي كانت قد أُعدمت وأُتلفت) بإبعادها عن الحرائق والنهب.
-3-
في الوقت الذي ظلَّ الحلاّج فيه مقيماً في مياه دجلة، كانت الإجراءات الفقهية تعمل على الدفع به نحو (الأعماق) بعيداً عن الذاكرة العامة ومنبوذاً منها ومخيفاً لها في آن. فبعد أربعة قرون على صلبه، لم يسلم من أحكام ابن تيميّة (1263 – 1328) الذي عاد وصلبه على فتاوى التكفير والزندقة، فيما كان (الصوفيُّ الاشراقي) بردائه الممزق قد رأى مسبقاً (سلالة العميان) التي احترفت صناعة الظلام:
وأيُّ الأرض تخلو منكَ حَتّى
تَعَالوا يَطلُبونَكَ في السماءِ
تَراهُم ينظرون إليكَ جَهراً
وهم لا يُبصرونَ مِنَ العماءِ
-4-
في استكمال لدفعه بعيداً عن (الوعي به) والتآلف مع ذكره وحياته، سيختلف كتّاب السير في نَسَبِه، حيث سيعيده العديد منهم إلى (فارس)، ربما لإبعاد شُبهَةِ (الكفر) عن (أرضنا)!! فيما النسب والأسماء والدلالات المرتبطة بحياته تشير إلى (البيضا) التابعة لـ (واسط) العراقيّة. وسيكون التجهيّل بنَسَبِهِ موازياً لذّرَّ رماد جثته في نهر دجلة.
هكذا بدا الحلاّج (عبئاً) ثقيلاً على تاريخٍ يتولّاه (العميان)… فتاه وضاع وتشرّد … إلى – يا للمفارقة المؤلمة – أن اكتشفه (مُنَقِبٌ) غربي فأزال الركام عن المصلوب وسيرته ولملم (نِتَفَهُ) من كل حدبٍ وصوب وأعاد جمعها ووضعها أمامنا بعد ألف عام من التشرّد والقمع والتخفي.
-5-
ورّطنا المستشرق الفرنسي (الإشكالي) لويس ماسينيون (1883 – 1962)، عندما أعاد (الطواسين) إلى رفوف المكتبات، وورّطنا أكثر عندما أصدر (آلام الحلاج) في العام 1922، أي مع الألفية الأولى لصلبه.
ورّطنا باستحضار الحلاّج مع (حمولة تراجيديّة) تجد شبيهاً لها في ما يفيض به (الصليب المسيحي).
وضع ماسينيون الحلاّج أمامنا وكأنه يقول: هذا واحدٌ منكم… فتدبروا أمركم معه.
طاف البلدات والمدائن. وعظ وخالف ما هو سائد / جامد ومُغلق فتبعه تلاميذ… كما المسيح. صادق النور وحارب الظلمة… وقال (أنا الحق)…رأى الله بعيداً عن جحور (العميان)… تمرّد وثار… وأُلقي القبض عليه… عُذب وجُلد ألف مرة… وعندما وافق الخليفة المقتدر بالله على إهدار دمه، صُلب حياً فخاطب الله: (قد اجتمعوا لقتلي تعصّباً لدينك، وتقرّباً إليك، فاغفر لهم، فإنك لو كشفتَ لهم ما كشفتَ لي لما فعلوا ما فعلوا).
عمن نتكلم؟
عن المسيح أو عن الحلاّج؟
كان يمكن للتشابه أن يصل التطابق، لولّا أنَّ المسيح كسر طوق التراجيديا بالقيامة، فيما الحلاّج تأبّد فيها.
لكن، لماذا الحلاّج كما المسيح، يطلب الغفران للقتلة؟
ببساطة نجد ذلك الجواب القاطع: (عميان / جهّال) لا يدرون ماذا يفعلون. فالعارف بما يفعل يُعاقب لأنه ينتمي للمشروع الإنساني، فيما الجاهل لا يزال خارجه، وعليه أن يقطع جسر الغفران كي يدخله. هذا الجسر ليس سوى خشبات الصليب.
-6-
الحلاّج مجدداً بيننا بـ (بقاياه: أشعاره والطواسين) فماذا فعلنا به؟
(العميان / الجهّال) لا زالوا يحيطون بنا، يحجبون الرؤية ويحتجزون (الله) ويحتكرون المعنى… فلم نتمكن من رؤيته يقيم في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا… اكتفى بالإقامة في قصائد الشعراء ونصوص المبدعين وأصوات المنشدين. لا زال بعيداً عن الذاكرة الاجتماعية، بعيداً عن (الوعي به).
كيف لنا أن نرى نوراً خبيئاً وراء ألف عام من العتمة؟
-7-
صليب المسيح يبشّر الحلاّج بالقيامة.
صليب الحلاّج يبشّر المسيح بالصلب أبداً.
-8-
كان صليب المسيح وحيداً في جلجلة القدس غرباً. مع صليب الحلاّج في كرخ بغداد شرقاً، حُكم (مسار جلجامش) بالانتقال من صليب إلى صليب.
-9-
أيُ معنى مُكثّف نراه في هذا المسار:
من صليب المسيح في كنعان / فلسطين غرباً، إلى صليب الحلاّج في الرافدين شرقاً، مروراً بصليب الجوع للسهروردي المقتول في حلب / برّ الشام.
أيُ معنى؟
-10-
مسارٌ مسمّرٌ على خشبة.
متى القيامة؟
غرباً… وشرقاً؟
إنْ حدثت… سيصل التشابه إلى التطابق… وتشرق الشمس ولا تغيب.
سيُبصر العميان.
سيقيم الحلاّج بيننا.
إنْ حدثت…؟
——————————————————-
إضاءات
1-الطواسين، عنوان كتاب للحلاّج، حققه وأصدره المستشرق ماسينيون في العام 1913.
2-آلام الحلاّج، شهيد الإسلام الصوفي، هو عنوان كتاب نال عليه ماسينيون شهادة الدكتوراة عام 1922.
3-السهروردي المقتول، مثل الحلاج يعتبر صوفيّاً اشراقيّاً، اتهم بالزندقة وأُهدر دمه، ويُقال إنّه اختار الموت جوعاً. كان ذلك في حلب في العام 1191.
4– من الشعراء اللذين تناولوا سيرة الحلاّج: عبد الوهاب البياتي، صلاح عبد الصبور في عمل مسرحي خاص بعنوان: مأساة الحلاّج (عرضت المسرحية عام 1971)، فايز خضور، أدونيس وغيرهم.
5– من الفنانين والمنشدين الذين أدوا أشعار الحلاّج: مارسيل خليفة، عبير نعمة، جاهدة وهبة، دلال أبو آمنة، كاظم الساهر، فريدة، أحمد حويلي، ميرنا سكيف، إياد الريماوي… وغيرهم.
وكانت أبرز القصائد التي أدوها وأنشدوها:
عجبت منك ومني – اقتلوني يا ثِقاتي – والله ما طلعت شمس ولا غربت – يا نسيم الروح قولي للرشا…
(استمع إلى جاهدة وهبة تؤدي قصيدة: إذا هجرت)
———————————————————
صلاة الحلاّج قبل الصلب
في مساء 25 آذار من العام 922، أي الليلة السابقة لصلبه، رنّم الحلاّج صلاة خاصّة هي الأخيرة له، وهي واردة في كتاب الطواسين الذي حققه ونشره لويس ماسينيون.
نص الصلاة نحن بشواهدك نلوذ، وبسَنا عزتك نستضيء، لتبدي ما ثبت من شأنك، وأنت الذي في السماء عرشك، وأنت الذي في السماء إله وفي الأرض إله… تجلَّى كما تشاء مثل تجلِّيك في مشيئتك كأحسن صورة ولا صورة، والصورة فيها الروح الناطقة بالعلم والبيان والقدرة والبرهان… كيف أنت إذا مثلت بذاتي عند عيانك ذاتي، وأظهرت معراج علومي بعجزي. إني أُخِذتُ وحُبِست وأُحضِرت وصُلِبت وأُحرِقت واحتملتْ الزياداتُ أجزائي، وإن ما بقي في معناي متخلياً أعظم من زوال الراسيات. |
دائما اختياراتكم هي الاروع أستاذي..
لكم شكري الجزيل على متابعتكم الدائمة
رائعة جدا تجلا الحلاج بمعرفة الله الحقيقي هو المتصوف بكبرياء الخالق
شكري وتحياتي لكم
اهنئكم على هذا الاسلوب في الكتابة وبالاخص على هذا الموضوع،
شكراً جزيلاً