أوراق العالم القادم

القيامة… غداً!!

النيو ليبراليّة – ما بعد الانسانيّة

إشارة تمهيديّة:

هذا النص ليس دعوة للخوف، كما ليس تبشيراً بمصير محتوم أو قدر لا يُردّ. هو نصٌ تحفيزيٌ / تحريضي للأخذ بمنهج الشكّ بما يجري في هذا العالم بتسارع غير مسبوق لـ (ظواهر) معينة تبدو للوهلة الأولى غير مترابطة، فيما هي – وكما نراها – تنضوي في نسق متكافل بما يرجّح خضوعها لنظام مركزي واحد. إنَّ التسارع الذي تجري فيه هذه الوقائع، خصوصاً على جانب المحيط الأطلسي الغربي، في مركز النيو ليبرالية، لا ييسر فرصة تأملها على نحو تلقائي.

اقتراح:

يمكن اعتبار هذا النص تتمة لمقال: أيّها العالم القديم وداعاً، أُشير على من لم يطلع عليه بالعودة إليه، ما يسهّل الإحاطة بجوانب من هذا المقال قد تبدو غامضة؟

رابط المقال:أيها العالم القديم.. وداعاً

-1-

مَن (هم) الذين يجب أن نرتاب بحركتهم و(نخاف) منهم؟

البحث عنهم يقتضي بعض المجهود، ليس لأنهم غير معروفين، إنما غير معرّفين من باب الارتياب، الذي يفكك الثقة المطلقة بهم والاستسلام لقدراتهم وهيمنتهم الماديّة والمعنويّة.

هم، ليسوا دولة كبرى ولا صغرى، وإن كانوا يسيطرون اليوم على معظم دول العالم الغربي. ما يعني، أننا لم نعد في عالم نمطي مُحقّلٌ وفق (هويات قوميّة مُشكلة من بُنى صلبة ونهائية). فالولايات المتحدة الأميركية الآن – كمثال بارز – لم تعد هي نفسها كما كانت منذ قرن، ومنذ نصف قرن، وربما منذ أقل من عشرين عاماً…؟

دونالد ترامب (2016 – 2020)، ليس (تنويعاً) من النظام السياسي الأميركي المكوّن بشكل رئيسي من قطبيه: الديمقراطي والجمهوري. ترامب من خارج هذا النظام، هو ممثّل (البنية الهوياتيّة) التقليديّة للولايات المتحدة. هو بهذا المعنى ليس جمهوريّاً، وبالطبع خصم بمرتبة عدو للديمقراطيين.

لماذا نقدم هذا المثال، وما هو مؤداه الأخير في هذه القراءة؟

أولاً– تراجع الصورة النمطيّة التي كانت تقدم العالم كـ (مجتمعات موحدة نهائية) مقابل تقدم صورة أخرى تشير إلى اختلال واضح وصل إلى مجتمعات / أمم، كنا نعتبر (وحدتها) عصيّة على أية عوامل تفكيكيّة. طبعاً، لا يعني هذا الكلام أنَّ الولايات المتحدة ستتفكك غداً. من السذاجة استنتاج ذلك، لكن من الأكيد أن مجتمعها مشمول بالصراع العميق حول مستقبله من ضمن الصراع حول مستقبل العالم، وبدرجة متقدمة حول مصير البشرية ومآلها.

ثانياً- سقوط (الاستثناء الأميركي)، مع احتجاجات جورج فلويد (George Floyd protests) التي اجتاحت المدن الأميركية ما بين 26 أيار و13 حزيران 2020. حيث شكّلت هذه الاحتجاجات (الثورة الملّونة) التي ساد الاعتقاد دائماً بأنها من الخيارات الاستراتيجية للإدارة الأميركية تجاه (دول خارجية) أخرى، وإذ بها (تلّون) واشنطن نفسها!

طبيعة الاحتجاجات وتطورها إلى أعمال عنف، ومن ثم استهدافها (التاريخ الأميركي) بهدم النصب والتماثيل… ما دفع إدارة ترامب إلى إنزال قوات الحرس الوطني الأميركي لحماية الإدارات الرسمية… (راجع مقال نزار سلّوم: هدم أميركا). كل ذلك عنى دون لبس أنَّ أدوات (الثورات الملونة) و(المجتمع المفتوح) ليست بيد الإدارة الأميركية، بل عند (جهة أخرى؟) قد تمد الإدارة بها في لحظة توافقها معها.

تنطوي فترة رئاسة ترامب للولايات المتحدة (2016 – 2020) على معاني شديدة الأهمية وحاسمة في إطار كشف طبيعة الصراع في (المركز الامبراطوري)، لكونها دفعت أطرافه إلى استخدام ما كان يتجنب استخدامه من أسلحة (الثورة الملّونة يقابلها اجتياح الكونغرس) بما يعني أن أعرق ديمقراطية معاصرة بقوانينها وتقاليدها وثقافتها لم تعد تتسع لخلاف تجاوز أدواتها ليستحيل إلى صراع شرس بين متناقضين جاهزين للانتقال إلى العداوة وأسلحتها.

هكذا بتنا أمام منصّة مكشوفة تماماً.

بوضوحٍ شديد، تُرى النيو ليبراليّة في أقصى حالاتها عراءً، في حالة اشتباك مع (الرأسماليّة التقليديّة – ترامب) التي هي ماضيها وإحدى حالاتها المستنفذة الطاقة المستقبليّة والتي يجب أن تقضي في إطار عملية تجديد الرأسماليّة لذاتها أو في الواقع تأبّيد نفسها، حيث (لا درب بديل) وفق وصية مارغريت تاتشر زعيمة إحدى أكثر الموجات النيو ليبرالية فتكاً بـ (التقليدية).

ستُوصف النيو ليبراليّة في تمظهرها الراهن بأوصاف / مصطلحات (بعضها عناوين كتب) من مثل: الرأسماليّة المُفرطة أو الفائقة – الرأسماليّة المتوحشة – الرأسماليّة الواقعيّة – الرأسماليّة الريعيّة – نظام التفاهة…لكن المعركة التي خاضتها في (المركز الأميركي) والتي شكّلت ما نطلق عليه: الحرب الأهلية النيو ليبرالية، كشفت – برأينا – عن قصور ما يعتري هذه المصطلحات لا يمكّنها من الإحاطة تماماً بالمعنى الراهن لواقع النيو ليبراليّة الذي تجاوز تأصيله إلى المرجعيّة النظريّة في (الطريق إلى العبوديّة – 1944) – فريدريش هايك، مروراً بوثائق (مجتمع مونت بيلرين – Mont Pelerin Society) الذي أسسه هايك نفسه في العام 1947 إلى جانب عدد من الاقتصاديين والمؤرخين والفلاسفة منهم كارل بوير وميلتون فريدمان الذي سيكتب لاحقاً (النيو ليبراليّة وآفاقها – 1951) ويشكل مرجعية استشاريّة لإدارتي تاتشر وريغان في الثمانينيات – وصولاً إلى (بيان النيو ليبراليّة) الذي وضعه تشارلز بيترز عام 1983 بالتزامن مع الحقبة الأنجلو – أميركية (مارغريت تاتشر – رونالد ريغان).

وبمعنى محدد لم تعد النيو ليبراليّة قابلة للتعريف ببعدها الاقتصادي (رأسماليّة مطلقة لعمليات السوق) وقيم الحرية الفرديّة المرافقة له، ذلك أن ظهور إيديولوجيا (تأبّيد الرأسماليّة) التي يمكن ملاحظة نشوئها في خلفية تأسيس (مجتمع مونت بيلرين) الذي تشكّل خوفاً على (الحضارة الغربية) المهددة…! – والذي لا زال يجتمع إلى اليوم لدراسة كيفية حراسة هذه الحضارة؟ – وصولاً إلى الكتاب الإيقوني (نهاية التاريخ والانسان الأخير – أغلب الذين يستشهدون بهذا الكتاب يسقطون الجزء الثاني من العنوان: الانسان الأخير، فيما يجب الانتباه بتركيز شديد على هاتين الكلمتين – 1989) – فرنسيس فوكوياما – الذي تزامن صدوره مع السقوط الكارثي للنموذج الشيوعي – الماركسي الممثل تحديداً بالاتحاد السوفيتي، ما أتاح الفرصة الواقعيّة والفلسفيّة للنفي المطلق لوجود (بديل)، والوصول إلى تقبّل فكرة (الانسان الأخير) والشروع في إعداد (العالم) لما بعده، فسارت جنباً إلى جنب فلسفة (ما بعد الإنسانيّة) مع إنجازات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وخصوصاً في البحث المتواصل والمضني لإنتاج (كائن) ما بعد الانسانيّة (السايبورغ مع الروبوت). (راجع مقال نزار سلّوم: أيها العالم القديم… وداعاً).

حدة المعركة التي خاضتها النيو ليبراليّة (بكل مكوناتها ومواقعها: من وادي السيلكون في كاليفورنيا حيث تقيم – آلهة التكنولوجيا – على منصّات تسيطر على الفضاء / العالم السيبراني، إلى وول ستريت في نيويورك حيث تقيم الرأسماليّة الريعيّة وفق تعبير مايكل هدسون). حدة هذه المعركة التي خاضتها في مركزها ومختبرها الأهم الولايات المتحدة، تشير بوضوح إلى تجاوز النيو ليبراليّة لبرنامجها المُعلن، نحو الاعداد لتحقيق وإنجاز (فكر مسبق / إيديولوجي) لا يتعلق فقط بتمكينها من أن تكون (مفرطة متوحشة واقعيّة مُراقِبة…) في عالم الانسان العاقل، بل وعلى نحو رئيسي تتجه لإنتاج عالم ما بعد (الانسان الأخير – العاقل) الذي لم يبق من عمره إلاّ القليل من السنوات وفق رؤيتها!

إنَّ تمظهر (الرأسماليّة المفرطة) في التكنولوجيا العالية وخصوصاً في حقل الذكاء الاصطناعي، أوصلها لـ (اللقاء) مع فلسفة ما بعد الانسانيّة، وهو ليس لقاءً تكافليّاً يتم عبره التعاضد وتبادل الدعم، بل – برأينا – اندفع ليشكّل حالة اندماجيّة تامة بحيث من الصعوبة رؤية أحد الطرفين مستقلاً عن الآخر إلاَّ لأسباب درسيّة.

الدقة هنا ضرورة حتميّة للإحاطة بهذا (اللقاء) ومعناه، حيث لا يجب أن يُفهم بأنَّ الذكاء الاصطناعي هو مُنتج حصري للرأسماليّة المُفرطة، بل هو مُنتج موجود وقابل للإنتاج في مختلف الأنظمة والدول والمجتمعات، وما يميزه في مركز النيو ليبراليّة (الولايات المتحدة مع بريطانيا وبدرجة أخرى أوروبا الغربيّة) هو اقتران فلسفة ما بعد الانسانيّة به، وهو ما يفتقده في روسيا التي قال رئيسها فلاديمير بوتين في العام 2017(من سيقود الذكاء الاصطناعي سيحكم العالم)، وأيضاً الصين واليابان وغيرها من الدول والمجتمعات التي لا تزال تلتزم شروط الانسانيّة الثقافيّة العامة وحدود الطبيعة البشريّة.

وفق هذه المقاربة، وتأسيساً إلى رؤيتنا لهذا اللقاء (الرأسمالي / التكنولوجي / الفلسفي)، سنتمكّن من اجتراح المصطلح الذي نعتقد أنّه يعبّر عنه، مع التعريف به، وهو:

النيو ليبرالية – ما بعد الانسانيّة: وهي الرأسماليّة المطلقة – التي تنفي رؤية بديلها أو حتى المُغاير لها – فتستهدف تأبّيد نفسها، بالعمل على إعداد (عالم جديد) يتجاوز (العالم الراهن) في بناه السياسيّة والاجتماعيّة، كما يتجاوز (العالم الإنساني) في طبيعته وصولاً لما بعده، متوسّلة تغيير الأسس التي يقوم عليها المجتمع من جهة وكسر الطبيعة البشريّة ونسق الأنظمة الثقافيّة والأخلاقيّة المرتبطة بها من جهة أخرى، وهي بذلك تعمل على تشكيل (العالم ما بعد الإنساني) بإنتاج كائناته في المستويين: الاجتماعي والفردي.

نحن الآن، وبوضوح شديد، أمام مَن نرتاب بحركتها: النيو ليبراليّة – ما بعد الانسانيّة.

-2-

العالم الجديد، لن يكون خارج هذا العالم الذي نحن فيه، وإن كان يعمل للتوسع ليشمل كواكب أخرى أولها المريخ، لذلك شرعت النيو ليبراليّة – ما بعد الانسانيّة في تعمير العالم الجديد، بالتوافق مع عمليات تدمير العالم القديم في مستوى وجوده الاجتماعي – السياسي، كما في معانيه الانسانيّة.

أولاً- تدمير المجتمع / الهويّة:

 ليس من الصعوبة اكتشاف تدمير المجتمعات خارج العالم النيو ليبرالي (الحروب الأهليّة – التجزئة السياسيّة، والثورات الملونة التي حلّت محل الثورات الوطنيّة والشعبيّة والقوميّة)، لكن قد يكون من (المغامرة) الظن – مجرد الظن – أنَّ ذلك يحصل بطريقة ما داخل ذلك العالم؟!

إنَّ ذلك التدمير التحويلي للمجتمعات الغربيّة – برأينا – يحصل. فـ (المجتمع المفتوح) كبرنامج ممول من رجل الأعمال والمضارب المالي الثري جورج سوروس، لم يُصمم كنظريّة خاصة بضرب (المجتمعات المغلقة) بفعل أنظمة الاستبداد السائدة فيها كما يتم الترويج له، ولم يتأسس على فرضية أنَّ (المجتمع الغربي) هو تجسيده الواقعي وإن كان فيه الكثير من ملامحه وظواهره، بل هو برنامج نيو ليبرالي لا (غربي) بالمعنى الهوياتي. وبذلك لا يستثني المجتمع الغربي من عملياته.

تعمل النيو ليبراليّة – ما بعد الانسانيّة على تفكيك الأسس الخاصة بتعريف المجتمعات بهويتها، وهي أسس تاريخيّة ثقافيّة وأخلاقيّة. وإزاء معاندة (البُنى المجتمعيّة الصلبة) بقوة أبعادها الدينيّة أو الإثنيّة وحتى الثقافيّة، لا يتوّرع البرنامج الليبرالي من اللجوء إلى عمليات الهجرة الشرعيّة الخاضعة لبرامج مُعلنة، وغير الشرعيّة أيضاً بغاية إضعاف هذه البنى في الطريق إلى تفكيكها. يمكن ملاحظة حجم عمليات الهجرة غير الشرعيّة في الولايات المتحدة والتساؤل عن تسهيل حصولها وأهدافها الغامضة؟  (نشير إلى الهجرة هنا باعتبارها مثالاً يحمل العديد من الأوجه ومنها الوجه الذي يحيلها إلى سلاح قيد الاستخدام، فمنذ وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، بلغ عدد المهاجرين غير الشرعيين الذين دخلوا الولايات المتحدة مليون ونصف، يتم إرسال قسم منهم إلى الحدود الكندية شمالاً كي يعبروا من فتحة معروفة نحو مقاطعة كيبيك. يوجد من أصل العدد الكلي لهؤلاء 120 ألف طفل دون أب أو أم؟). بالطبع لا أحد يصدق أن الولايات المتحدة عاجزة عن وقف هذه العمليات وأن كندا لا تتمكن من إغلاق فتحة حدودية، وأن الاثنتين تسمحان بذلك لأسباب إنسانيّة؟

تفكيك الهويّة يأتي في سياق ما وصلت إليه مرحلة ما بعد الحداثة مع سبعينيّات القرن العشرين ويُعرف بتحطيم السرديات الكبرى، بغاية الوصول إلى (مجتمع مجرّد) دون هوية وملامح ومستعد لاستقبال ملامح أخرى، لن تكون من سمات الهويّة (القديمة) ومعناها، بل من طبيعة وظيفيّة محض، تأكيداً لما قالته مارغريت تاتشر من أنَّه (لا يوجد مجتمع، بل شركات).

في إطار تحطيم السرديّة التاريخيّة يمكن ملاحظة موجة التنكّر لتاريخ أميركا الذي عبّر عن نفسه جليّاً في مرحلة ما من احتجاجات جورج فلويد والتي قادتها نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب حين دعت إلى إزالة 11 نصباً من ردهة في مبنى الكونغرس تمثل شخصيات كونفدراليّة. ومن المؤكد أن بيلوسي لا تدعو إلى ذلك لأسباب مناهضة للعنصرية أو أخلاقيّة – إنسانيّة.

الثورات المُلّونة في أوروبا الشرقية عملت في هذا المنحى، والثورات السوداء في العالم العربي أنجزت ما يفوق هذا الهدف. وكل الحروب التي تنشب تؤدي في خواتيمها إلى عنوانين رئيسين: التهجير السكاني واللجوء، وإعادة الإعمار. العنوانان في قبضة البرنامج النيو ليبرالي عموماً أينما تكن الحرب. الهدف: تدمير المجتمع / الهويّة مقابل إنتاج المجتمع / الوظيفة.

لا تستهدف النيو ليبراليّة – ما بعد الانسانيّة تجاوز واقع الأمة / الدولة، خصوصاً في مركزها على جانبي المحيط الأطلسي، على الأقل في المدى المنظور، وإن كانت تعمل بوضوح تام على تغيير (المحتوى الهوياتي) لهذا الواقع، وإزاء سيطرتها الكاملة وتأبّيدها لنظامها حاكماً له مع الأخذ والترويج دائماً للحوكمة التي استكشفها باكراً الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو بكونها طريقة في الحكم تستغل تقنيات تتراوح من الضبط الذاتي للأفراد إلى ضبط حيوي سياسي للسكان جميعهم، فإنها بذلك تضعف الأمة – الهويّة، مع عملها الدؤوب على إنتاج (هويّات عابرة – معولمة) تساهم في تشكيلها على نحو رئيسي مِنصّات التواصل الاجتماعي التي تقترح (نظام المجموعات المتوافقة) بديلاً لـ (الهويّات الوطنية). وعلى التوافق مع هذا الاتجاه تحافظ النيو ليبراليّة على الدولة قوية لحمايتها، حيث الدولة التي خرجت من السوق نهائياً اختصت بوظيفة مدّ هذا النظام بالقوانين والتشريعات وحمايته وحراسته مقابل إتاوات تأتيها على شكل ضرائب.

بهذا المعنى، يُستكمل إنتاج (المجتمع المُجرّد)، فيما يتم إنهاء الدولة السياسيّة، واعتماد الدولة الوظيفيّة التي تجد ما يجب أن تفعله في البرنامج النيو ليبرالي – ما بعد الإنساني الذي يشكّل مرجعيتها. وعلى التوازي يمكن التيقن من موت رئيس الدولة السياسي ليحلّ محلّه رئيس الدولة التقني / الموظف.

ثانيّاً – تدمير / كسر الطبيعة الانسانيّة:

إنَّ الفكرة المركزيّة لفلسفة ما بعد الانسانيّة، تتمثل في النظر إلى الإنسان ككائن محدود بشروطه العضوية البيولوجيّة، والتي تحكم قدراته ومسيرة حياته المتسلسلة من الطفولة نحو الشيخوخة وما يرافقها من أمراض وآلام وضعف وصولاً إلى الموت. وعلى ذلك تتساءل هذه الفلسفة عما إذا كان هذا الكائن / الانسان محكوماً على نحوٍ أبدي بـ (شروطه)، وعما إذا كان قادراً على تجاوز هذه الحدود وتغيير تلك الشروط؟

جواب فلسفة ما بعد الانسانيّة، يتكثّف في اسمها. أي، نعم يمكن لهذا الكائن / الانسان أن يتخطى حدوده البيولوجية ويغيّر شروط حياته، بتخطي نفسه، واقعيّاً وليس رمزيّاً، فينتقل إلى ما بعد نفسه، إلى ما بعد الانسان، ليُنتج نفسه كـ (كائن جديد). لكن كيف؟

الجواب ليس من المرجعيّة الفلسفيّة، بل من حقل التكنولوجيا العالية، وتحديداً من (حقل اللقاء الكبير لعلوم النانو والتقانة الحيوية والمعلوماتية والمعرفة الادراكية، التي يتم اختصارها بحروف أربعة:

NBIC = Nano + Bio + Info + Cong

 هذه الحروف الأربعة، تعمل في اتجاهات ثلاثة رئيسة للوصول إلى (كائن ما بعد الانسان) بنسخ متعددة:

السايبورغ، وهو نظام اندماجي تفاعلي (انساني – آلي).

الروبوت، وهو نظام آلي فقط.

(سوبرمان؟)، المعدّل جينيّاً.

طبعاً، السريّة المطلقة تحيط بمراحل الأعمال وما تتوصل إليه، باستثناء بعض الثغرات التي تحدث أحياناً فتكشف جانباً ما يشير إلى طبيعة العمل الجاري، من مثل ما كشفه في تموز 2022، العالِم في غوغل، بلاك ليموين، الاختصاصي في نظام لامدا lamda وهو نظام متطور لبناء الروبوت، حيث وعلى نحوٍ غير متوقع، صرح قائلاً: (تقنية غوغل اللغوية واعية ويجب احترام مشاعرها)، في إشارة منه إلى أن الروبوت الذي يشرف على بنائه بدأ (يعي ذاته)!

إدارة غوغل أنكرت ذلك كله وطردت ليموين من عمله.

هذه الحركة التكنو – فلسفيّة لا تشكّل (الميزة التفاضلية) للنيو ليبراليّة وحسب، بل تشكّل مستقبلها ووعدها، ولذلك ارتأينا دمجهما اصطلاحاً.

النيو ليبراليّة كسلطة / دولة، تعمل على تأهيل البيئة الملائمة لكائن ما بعد الإنسانيّة، وهي إذ تتمكن من اجتراح القوانين والتشريعات إلى جانب الحماية المادية اللازمة، تبقى العقبة الكبرى الأصعب التي تواجهها في هذا المجال متمثلة في طبيعة (الطبيعة البشريّة)، التي حكمت حياة الانسان العاقل منذ ظهوره وإلى الآن، ثم ما أنتجه خلال هذا العمر الطويل، وخصوصاً مع (الانسان العاقل الحديث) من لحظة وعيه لذاته، من نظم أخلاقية وثقافية عموماً متوائمة مع هذه الطبيعة.

طبيعيّاً، الوجود البشري (التشريحي) يخضع لشروط عضوية / بيولوجيّة (قامة منتصبة – يدان – رجلان…الخ) موجودة في كل فرد، ووجودها يميّزه كإنسان، فيما الوجود البشري الجنسي ثنائي: ذكر وأنثى. كما هو اجتماعي وحدته الأولى تبتدئ برجل وامرأة ومن ثم أولاد فتتشكل الأسرة.

يعي الانسان طبيعته البيولوجيّة وشروطها كما يعي اجتماعيته، وفي إطار هذا الوعي يمارس حياته ويراكم ثقافته ويرتقي بها.

أبحاث (الحروف الأربعة) تتجه لتجاوز الوجود البشري: تشريحيّاً وجنسيّاً واجتماعيّاً، ذلك لأنها تعمل على تشكيل رحم (انساني – رقمي) لولادة السايبورغ، ورحم (آلي) لولادة الروبوت، ورحم (سوبر) لولادة السوبرمان.

إذاً، لا بدَّ لتأمين حصول هذا التجاوز من تدمير الطبيعة البشريّة وكسرها، في المستوى الجنسي والاجتماعي، وتشكيل وعي جديد لذاتها، يؤهلها للتلاؤم مع هيكلها العضوي ونِسَخِهِ -نماذجه – التي يُصار إلى استيلادها. إذ ذاك تبدأ نهاية الانسان العاقل الذي وفق المنطق الأنثروبولوجي، (سينقرض) كما انقرض سلفه النياندرتال بحكم عدم الكفاءة، وتبتدئ عصور ما بعد الانسانيّة.

كان من شأن الاتجاه لتكريس فكرة تأبّيد الرأسماليّة في نهاية الثمانينيّات من القرن العشرين، التلازم مع عملية (تمويّت السياسة) مع مؤازرة استثنائية قدمها سقوط الاتحاد السوفيتي، وبالتالي سقوط البديل الذي دون وجوده واقعاً وفكراً تصبح السياسة دون معنى. وفي هذه اللحظة تماماً وجدت الرأسماليّة فرصتها النادرة فأدرجت الحوكمة كألية ترسّخ موت البديل وتفتح ورشة إصلاح دائمة ومرتبطة بنيوياً بنظامها، لتنتفي (الثورات) ويرسخ الضبط الحيوي الذاتي للفرد متناغماً مع الضبط العام للمجتمع. وبهذا (الضبط الذاتي والعام) يتم كسر إرادة التمرّد (الثورة) في الطبيعة الانسانيّة وإعادة تدريبها للتلاؤم مع الواقع القائم أو الموعود، فيما ستكون الاحتجاجات على هذا الواقع نوعاً من التعبير عن عدم القدرة على التلاؤم، أو هكذا سيُنظر إليها، وبالتالي ستكون محكومة مسبقاً بأنها من (العالم القديم) الآيل إلى النهاية.

يمثل (مجتمع الميم: المثليّون والمتحولون جنسيّاً وتنويعاتهم الأخرى)، الحالة الأكثر حضوراً وفعالية في عملية استهداف الطبيعة البشريّة والثقافة الانسانيّة الموازية لها. بالطبع لم تنشأ المثليّة حديثاً، فإن كانت ذات أصول جينيّة فلا بدَّ أنها بدأت مع الحياة البشريّة، ولكنها بالتعليل العلمي هي ناتج (طفرة جينيّة) ولذلك أخذت بالمعنى الاجتماعي السلوكي صفة الشذوذ. والشذوذ يعني الخروج على العام الطبيعي، وبسبب ذلك رُذلت أخلاقياً وحُقّرت اجتماعياً وحُرّمت دينيّاً.

تتبنى النيو ليبراليّة ما بعد الانسانيّة (مجتمع الميم)، على النحو الذي يمكّن (الشواذ) الاجتماعي والثقافي والأخلاقي ليس من أن يكون (مقبولاً) من مجتمع طبيعي عام، بل وليتمدد ما أمكنه ذلك فوق ذلك المجتمع في عملية قضم متسارعة ومثيرة للتساؤلات عن الدوافع والأهداف؟

إنَّ ما نراه اليوم، هو احتفاء غير مسبوق بمجتمع الميم في مختلف الصعد الثقافية، والاعلاميّة، والتربويّة، والاجتماعيّة. يمكن ملاحظة كيف أنَّ سفارة الولايات المتحدة في موسكو والفاتيكان تتعمد رفع العلم الخاص بالمثليّة، في عملية تأخذ معنى الهجوم الرمزي المباشر على مراكز لنظم أخلاقية ودينية لا زالت تقف في وجه تمدد العالم المثلي إليها، ولا يمكن تفسير هذا السلوك الاستفزازي – كما يتم الترويج الإعلامي له – لأن إعلان الاستقلال الأميركي يتضمن في مطلعه عبارة (الحياة والحرية والسعي وراء السعادة) حيث هذا الحق يضمن للإنسان حريته في اختيار المثليّة إن كانت تحقق له السعادة؟ فيكون السلوك الأميركي الذي يتبنى مجتمع الميم الآن ويدفع به قدماً، رسولياً مثاليّاً ينفذ وصيّة آباء الاستقلال!

 وفي الوقت الذي كان المثليّون فيه يقيمون في المدن الكبيرة ضمن (غيتوات) خاصة تسمى القرى، نرى الآن هذه القرى وكأنها (مستوطنات) تتوسع بتسارع ملفت مع احتفاء المؤسسات النيو ليبراليّة – ما بعد الانسانيّة بها في مختلف مؤسساتها، فأصبحت هذه المستوطنات مراكز استقطاب يتم تحميلها بعناصر القوة التي تجعلها تتمدد فوق جسد المدينة دون مقاومة، وكأن هذه الأخيرة هُزمت واستسلمت!

واستكمالاً لهذا السياق، إن كانت المثليّة تعود في أصلها لأسباب (جينيّة) تم النظر إليها دائماً بكونها (طفرة) من قاعدة عامة، فهل ما نراه اعلاميّاً وثقافيّاً وواقعاً، ويشي بانتقالها من موقع الخائف والمعزول والمحتاج لمن يدافع عنه إلى حالة الهجوم الشامل والحضور المتسارع، هل ما نراه موازٍ لكونها طفرة فعلاً؟ أم تتجه لاحتلال موقع (القاعدة العامة)؟

وإذا كان يتم التأكيد دائماً بوجوب النظر إلى الميول المثليّة بكونها ناتجة من أسباب طبيعيّة بيولوجيّة، لا من خيارات سلوكيّة لها مضامين ثقافية وأخلاقية، فهل (المجتمع المثلي) الذي نراه الآن هو حاصل تلك الأسباب الطبيعيّة أم أنَّ برنامجاً ترويجيّاً مركّباً استجلب ولا يزال إلى هذا (المجتمع) من هم غير محكومين بالأصل بالطفرة الجينيّة، بل بالقاعدة الجينية العامة؟

تأخذ المدارس العامة في الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا على سبيل المثال، بمبدأ (تذويب الوعي الجنسي) استناداً إلى ثقافة عدم التمييز. وفي الوقت الذي تأخذ فيه هذه الثقافة معاني مرتبطة بالمساواة والعدالة والحرية، يتجه التذويب نحو ضرب المحتوى الجنسي الذي يميز ما بين ذكر وأنثى، فيصار إلى استئصال هذا الوعي المستند في أصله إلى أسباب طبيعيّة بيولوجيّة، ومن ثم إلى أسباب ثقافية رافقت تطور المجتمع الإنساني. وفي السياق نفسه يعتبر الحق بالإجهاض من عدمه عنواناً برّاقاً في البرنامج النيو ليبرالي الذي يخوض معارك سياسيّة واجتماعيّة من أجل تكريس وتشريع حق المرأة في الإجهاض. هنا لا تبدو المسألة مرتبطة بحرية المرأة، بل بـ (طبيعتها)، أي بالشروط البيولوجية لوجودها ووظيفتها العضويّة / الطبيعيّة. أي أن المواجهة هنا مع (حكم الطبيعة) أو (الترتيب الإلهي)، الذي يتجه البرنامج النيو ليبرالي لنقضه تماماً. فالإنجاب بهذا المعنى هو استسلام المرأة لقدر الطبيعة، الذي – وفقاً لمناصري الإجهاض – حاصرها بهذه (الوظيفة) ما أعطى واقعاً تفاضليّاً للرجل عليها بكونه متحرراً من شروط وواجبات إيصال وظيفة الحمل إلى خواتيمها.

ستؤدي ثقافة تذويب الوعي الجنسي هنا إلى تحرير المرأة من (حكم الطبيعة) من جهة، ونقل (الانجاب) – الذي سيُنظر إليه كاعتداءٍ على الجسد – من خانة الطبيعة إلى خانة الصناعة. سيستولي هنا مجتمع الميم، الذي يُفترض أنه منقوص طبيعيّاً، على ما كان ينقصه ويوجد في المجتمع الطبيعي ومن سماته، فيزيل الفارق الذي كانت تفرضه الطبيعة معه، ويذوب الوعي الجنسي الذي يعتبر الولادة واستمرار النوع حصيلة لقاء حصري بين ذكر وأنثى، لتمسي (صناعة) عامة – حسب الرغبة والطلب ما يفترض دخولها في آليّات السوق – وغير مفروضة بشروط بيولوجية طبيعيّة مُحتكرة من الثنائية البشرية!

إنَّ الطفل الذي يولد في مجتمع الميم، هو حصيلة قرار صناعي، له حيثياته وأدواته وتجهيزاته، ومن الأكيد أنَّ لا أب ولا أم له، ذلك أن الوعي الجنسي المُذّوب أجهز على الثنائية البشريّة، وأنتج وعياً لإنسان (موحّد: لا ذكر ولا أنثى)، سيكون هو النسخة الانتقالية ما بين الانسان العاقل الحديث الذي هو نحن وكائن ما بعد الانسانيّة الذي سيبدأ بسلالات السايبورغ والروبوت والسوبر.

من المؤكد أن المثليّة ليست من صنع الرأسماليّة ولا النيو ليبراليّة ولا أي نظام أخر في التاريخ، ولكن من الواضح تماماً أنَّ (مجتمع الميم) بوضعه الراهن هو قيد البرنامج النيو ليبرالي – ما بعد الإنساني.

ووفق هذا البرنامج، يتم تدمير الطبيعة البشريّة وكسرها، جنباً إلى جنب مع تدمير المجتمع / الهويّة، فيكتمل تدمير العالم القديم حيث سيتراجع الانسان خلفاً للدفاع عن وجوده وطبيعته أمام سلالات ما بعد الانسان التي يمكن التحكم بها عدداً وكفاءة حسب حاجة البرنامج ومقتضياته.

-3-

روزنامة العالم والمُفكّر الأميركي المستقبلي راي كيرزويل، التي وضعها للإشارة إلى بداية عالم ما بعد الانسانيّة تحتوي على تاريخين حاسمين:

 الأول، هو العام 2029 عندما سيتمكن العقل الالكتروني (الكومبيوتر) من الوصول إلى قدرات العقل الإنساني ومعادلته في الطريق إلى تخطيه.

الثاني، هو العام 2045 عندما لن يتمكن الانسان من الاستمرار في الحياة بشروطها الجديدة، إلاَّ وفق نظام الدمج التفاعلي البشري / الإلكتروني.

برأينا، قد تتغير هذه المواعيد مقتربة من اللحظة التي نحن فيها، ذلك أنَّ وباء كورونا، مكّن النيو ليبراليّة ما بعد الانسانيّة، عملاً بـمبدأ (عقيدة الصدمة) التي تشكّل أطروحة مسهبة للمفكّرة الكنديّة نعومي كلاين – التي تعتبر في الجهة المناقضة لعرّاب الرأسماليّة المتوحشة ميلتون فريدمان-، حيث كشفت بوضوح تام كيف تستفيد النيو ليبراليّة من الكوارث الطبيعية (فيضانات وأعاصير وأوبئة…) أو المفتعلة (حروب وانقلابات…) في فرض إجراءات من غير الممكن قبولها من المجتمع في الحالة الطبيعيّة، وسواء تم تصنيف كورونا في هذه أو تلك، يبقى أنّه مكّن النيو ليبراليّة من إنجاز حزمة من البنود المتتابعة من برنامجها، مع التسارع المذهل الذي شهده حقل الذكاء الاصطناعي، الذي تبدو سيطرته واضحة على عالم الأعمال والترفيه والاجتماع، ولكن قيام إدارة تويتر باتخاذ قرار بطرد الرئيس دونالد ترامب من منصتها (أي أنَّ مواطناً أميركياً مالكاً لمنصّة اعلاميّة هو الذي اتخذ قراراً بطرد رئيس البلاد؟). إنَّ هذا الحادث يؤكد أن سلطان العالم الراهن والقادم سيكون التكنولوجيا العالية والذكاء الاصطناعي خصوصاً، وفقاً لما قاله مرة فلاديمير بوتين.

انتبهت النيو ليبراليّة، إلى أنَّ (الصدمة الكهربائيّة) المستخدمة في المجال الطبي بالأصل، تؤدي إلى تفريغ ذاكرة المريض من محتواها، ما يوصله إلى حالة من الاضطراب العقلي الموسوم بالهلوسة، ويمكّن بالتالي من إعادة ملء ذاكرته بمعطيات جديدة. وعلى ذلك أوصى ميلتون فريدمان بالأخذ بهذه المنهجيّة لإحداث تغيرات كبيرة وسريعة لا يمكن مقاومة الأخذ بها من مجتمع واقع تحت تأثير صدمة الكارثة وذاكرته تفقد محتواها ومرجعياتها تباعاً وتتلقى معطيات بديلة لإعادة تشكيلها.

مع وباء كورونا، والآن مع الحرب في أوكرانيا التي أخضعت أوروبا كلها لـ (عقيدة الصدمة) فاتخذت إجراءات كان من الصعب اتخاذها سابقاً، وخصوصاً في ألمانيا (التخلي عن الغاز الروسي والاستسلام لسياسة التقنين وربما ما هو أسوأ ويتعلق بالأمن الغذائي ليس في أوروبا وحدها وإنما في مختلف دول العالم؟ بالطبع ليست أوكرانيا مركز مؤنة الكرة الأرضية…؟!!)، وغداً ربما مع كارثة قادمة (الجفاف المفاجئ في أوروبا، فيروسات وأوبئة جديدة…)، يترافق ذلك مع تسارع منجزات الذكاء الاصطناعي. كل ذلك من شأنه أن يعدّل من روزنامة كيرزويل. وإزاء تسارع من هذا النوع (مثال: إنَّ مواليد العام 2008، الذين يُفترض أن يدخلوا سوق العمل ما بين العام 2030 و2035، لا يعرفون طبيعة المهنة التي سيمارسونها، ويعود السبب إلى أن المهن الحاليّة ستكون مدمّرة تماماً بنسبة تصل إلى 70%، مع عدم وضوح كافٍ بماهيّة المهن البديلة؟) … إزاء تسارع من هذا النوع، نعتقد أننا لن نتمكن من الإفلات من تأثيرات صدمة التغيرات السريعة التي تمر أمامنا كشريط عرض سينمائي سريع، ما سيعرّض المجتمعات والافراد لأعراض الاضطرابات السلوكية والنفسيّة والعقلية مع فقدان جزئي أو كلي للذاكرة التي سيعاد تشكيلها بمرجعيات النيو ليبراليّة – ما بعد الانسانيّة.

-4-

كان الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر (1889 – 1976) قد قارب المعنى العميق للحداثة وما بعدها، باعتبارها في جوهرها حوّلت الوجود، بكائناته وطبيعته وبيئته وكل شيء فيه، إلى (نظام حسابي) رمزي، وأي بند في هذا النظام يأخذ قيمته من علاقته مع برنامجها. هكذا أمست الطبيعة مصدراً للمواد الأولّية (فحم – غاز – معادن…) وليست غابة أو جبلاً ونهراً ووادياً… وعلى التوازي انضوى الانسان فيما يسميه هايدغر بعملية (التأطير)، فانتفى ككائن له سمات وجوديّة وأمسى رمزاً مجرّداً. وعلى ذلك ومع التقدم المذهل للحداثة وما بعدها وخصوصاً مع التكنولوجيا العالية، ستُصاب الكينونة / الوجود بما هو – حسب هايدغر – بتراجع في معناها مقابل تقدم ورسوخ عملية تأطير الكائنات في نظام حسابي.

هل نجد في هذه الرؤية الفلسفيّة الناقدة مرجعية مسبقة لما نسميه الآن تدمير العالم القديم بهويته الاجتماعية والثقافية والتاريخية عموماً وبكائنه / الانسان، وإعادة (تأطيره: الطبيعة والانسان) في (نظام رمزي) موازٍ للنظام الرمزي الخوارزمي الذي يحكم برامج العقل الإلكتروني الذي يتولى السلطة على الحياة في حاضرها ومستقبلها؟

-5-

إن كانت النيو ليبراليّة – ما بعد الانسانيّة، تعمل على (تأبّيد نفسها) بتدمير العالم القديم بهويته و(كائنه / الانسان) وإنتاج عالم جديد وكائن جديد، فهذا يعني بوضوح أنّها تحاول نقل فكرة (الخلود) من الفضاء الفلسفي – الميتافيزيقي والديني في آن، إلى برنامجها في الواقع المعيش. ذلك لأنَّ النظام الحسابي / الرمزي الذي يتم فيه تأطير العالم، والذي رأه هايدغر مسبقاً، والذي يعني حلول (مجتمع مُجَرّد) محل (مجتمع تاريخي هوياتي)، سيقود – برأينا – إلى إنتاج (العالم المُجرّد المؤبّد). حيث نفي الهويّة يعني نفي التاريخ، فالهويّة / الكينونة بمعنى فلسفي هي سمات الحركة عبر الزمن، وموتها يعني أن ما يتحرك على مسار الزمن هو رمز لا يموت وليس كائناً تاريخيّاً. وبذلك تنتفي المسافة بين الواقع و(ما وراء الواقع).

هل نرى أمامنا تحرّشاً واضحاً ومباشراً بالفكرة الرئيسة لجوهر الدين؟

نعم، النيو ليبراليّة عموماً، وخصوصاً في طورها الراهن ما بعد الإنساني تنظر إلى نفسها كدين / فكر مطلق، فأبطلت التاريخ واتجهت نحو التأبّيد، فاستولت على فكرة القيامة، التي تشكّل خلفيّة وضع التقويم الذي وفق تواريخه سيولد العالم الجديد. وإلى أن يفتح ذلك العالم بابه الكبير أمام من (يستحقون؟) سنكون جميعاً في حالة اضطراب عقلي كبير وكأننا في (يوم الحشر) نتزاحم في انتظار قرار (الديّان)!!

بهذا المعنى، ينتهي التاريخ.

-6-

هل أخافونا؟

بلى، أنا لم أدخل في النظام الحسابي الرمزي المجرّد.

لا زلت إنساناً… يخاف.

وزوجتي أيضاً تخاف، لانتظارها القيامة أمام ربّها،

ولخوفها عليَّ… لن تتركني وحيداً.

‫6 تعليقات

  1. أشكرك
    كنت أحاول لم ما أعرفه لأشكل منه موضوعا للمستقبل ….لكنني لازلت أحاول …. وحضرتك قدمت موضوعا يوفر الكثير لمن يقرأ.. ويريد أن يؤسس أو ينظر للمستقبل….
    موضوع خطير …. يختصر الأفق
    أشكرك

  2. جهد كبير وشجاع في البحث وفي طرح العناوين وإطلاق التسميات والتعاريف.
    قد يبدو غريبا أو مستبعدا للبعض، ولكنه يبدو منهجيا واقعيا وملهما بالنسبة لي..
    معك كل الحق فيما تقرأه وتتوجس منه، وإن كان المآل الحقيقي قد يختلف ما تطرحه.

    شكرا جزيلا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق