العالم الآن

حرق المُقدّسات

الاستثمار المزدوج

لا شكَّ أنَّ حرق أي كتاب هو فعل منفر وخصوصاً إذا كانت له قداسة أو رمزية عالية في نظر شعوب كثيرة، ويمكن بعد هذا، أن نتجادل حول إذا ما جاز اعتبار ذلك الفعل شكلاً من أشكال التعبير عن الرأي (مهما يكن الأمر مستهجناً) أم لا. غير أنَّ هذه القضية لا تحل في تلك البلاد (السويد) بواسطة خفة يد الحاكم الشهيرة في بلاد العرب والمسلمين القادرة على تذليل الصعاب التشريعية والتنفيذية على حد سواء. أما في السويد فقد تستغرق الإجراءات بعض الوقت إذا ما توافق الناس على تغيير ما، مما يستدعي صك القوانين الخاصة الجديدة المنظمة لذلك التغيير المطلوب من الناحية العملية.

 ولكن ماذا عن تهديد حياة الكتاب والمعارضين؟ إنَّ حرية التفكير والتعبير هي حق مقدس في جميع البلدان التي يتمتع أهلها برفاهية التفكير، وهو ما لم يخبره الناس في بلادنا عرباً ومسلمين، فتلك مجازفة كبرى قد يكون ثمنها الحياة ذاتها.

لقد بات الأمر مملاً وممجوجاً ومكشوفاً تماماً ليس من جهة الطرف الذي يشعل النار فقط، بل من طريقة ردة الفعل الانفعالية (عفوية أو منظمة) التي لا ترقى إلى أي مستوى حقيقي لا يجلب الكآبة، ولعل الشكل الأبسط والأجدى للتعامل مع أمر كهذا، وهو ما لم يخطر ببال أحد ولم يجربه أحد حتى الآن، يتمثل في التجاهل المطلق وغض النظر عن الفعلة والفاعل معاً.

طبعاً أنا أعرف أنَّ هذا لن يحدث لأنَّ الأمر ينطوي غالباً على فرصة تسقط مثل ثمرة ناضجة في فم بعض القوى الدينية السياسية التي تحتاجها ولا تضيعها. وأعرف أيضاً أنَّ الإسلام لن يخرج أكثر قوة بعد كل احتجاج عنيف ومدمر، بل العكس هو الصحيح، ردود الفعل هذه لا تخدم إلاَّ الفاعل ومن يسانده وهي في الحالة السويدية، قوى يمينية متطرفة تريد تأجيج الخوف داخل نفوس السويديين من اللاجئين المسلمين الهاربين من بلادهم المسلمة إلى بلاد تصادف أنها لا تتبنى ديناً ولا تنحاز إلى مُقدّس لأنَّ القداسة في نظرها هي موقف فكري قد يخص شخصاً ولا يتعداه للمختلفين معه في العقيدة، وباختصار: لا دين لدولة السويد، لأنَّ الدولة لها وظائف تتعلق بالأرض ومن عليها ولا شأن لها بالسماء وما يوعدون.

يبدو أنَّ أقصر الطرق لبلوغ الأرب هو أن تناصب المسلمين العداء.

من منا لا يذكر تلك الفتوى الشهيرة التي أصدرها الإمام الخميني بإهدار دم سلمان رشدي الكاتب البريطاني من أصل هندي، وقد كان في الحقيقة كاتباً مرموقاً قبل وقت طويل من صدور كتابه ذاك، الذي لم يكن في الحقيقة خيرة كتبه، ولعله قد مر مرور الكرام لولا فتوى الإمام، التي جعلت منه أكثر كتبه توزيعاً، بل من أكثر الكتب العالمية، انتشاراً بفضل تلك الفتوى التي ذهب ضحيتها عشرات الشبان المسلمين الفقراء، في حرائق واحتجاجات مؤسفة لم تسفر إلاَّ عن الترويج للكتاب الذي بيعت ملايين النسخ منه بعشرات اللغات العالمية.

ولو نظرنا عن كثب في حادثة إحراق النسخة الورقية من القرآن الكريم لرأينا:

أنَّ من أحرق المصحف هو مواطن عراقي يبلغ من العمر37 عاماً، يقول عن نفسه إنه “عراقي ليبرالي علماني ملحد، ومعارض للحكومة والنظام العراقي، وقد أسس وترأس حزب الاتحاد السرياني بين أعوام 2014 -2018 وسجن فترة في العراق لأسباب غير واضحة وهو لاجئ في السويد وحاصل على إقامة مؤقتة ويسعي إلى الحصول على إقامة دائمة وقد يكون وجوده وسلامته معرصان للخطر، فيما لو أعادته السلطات السويدية إلى العراق، وهذا سبب كاف لمنحه الإقامة الدائمة في السويد وهو ما يهدف إليه في الأساس.”

من نافلة القول أنَّ الجهة التي قامت بتنظيم إحراق السفارة السويدية ببغداد وجعلتها تبدو كردة فعل عفوية إنما كانت تسعى لتحقيق مكاسب سياسية سهلة المنال.

ومن نافلة القول أيضاً، أنَّ الشعب العراقي المثقل سوف يتحمل تكاليف إعادة بناء ما دمره حماة الديار.

لكن المثير فعلاً هنا هو هذا الاستغباء الفظيع، والذي لا يبدو فقط في المبالغة بإظهار الحميا الدينية باستدعاء السفراء السويديين وتسليمهم احتجاجات على فعلة الحرق، من قبل حكام بعض البلدان، ومن بينها بلدان يفوق إخلاص أولي الأمر فيها لدولة الكيان كل ما عداه.

الأنكى أنَّ المحتجين يتصرفون وكأن كل ما يخص دينهم وعقائدهم في منأى عن المس، لولا حرق الكتاب لكان الله راض عن عباده الصالحين، ولكان كل شيء على ما يرام!

ما لا يعرفه الكثيرون أن السويد لا تعاقب من يحرق علمها الوطني ذاته، دع عنك أي كتاب أرضي أو سماوي.

السويد لا تعادي الإسلام ولا تناصره ولا تعادي أي دين اخر ولا تناصره كذلك.

المؤامرة المزعومة ضد الإسلام ثرثرة فارغة. هنالك مشاعر خوف أوربية متنامية من الإسلام والمسلمين، هنالك نوع من الإسلاموفوبيا تغذيها قوى يمينية داخل السويد وأوروبا، وقوى يمينية إسلامية داخل السويد وغيرها من البلدان عبر أعمال من العنف يقوم بها مسلمون وتوظفه قوى إسلامية وغير إسلامية لمآرب سياسية تخص أجنداتها.

 

وليد الهليس

شاعر من فلسطين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق