العالم الآن

لبنان: نحو صدام … حاسم؟

قراءة في نتائج الانتخابات اللبنانيّة

لا تكفي استعارة مصطلح (الانتخابات النيابيّة)، من القاموس السياسي، كي يكون ما جرى في لبنان يوم الأحد 15 أيار 2022، هو انتخابات نيابية وفق المعنى السياسي فعلاً؟ والواقع أن ما جرى في ذلك اليوم يشبه تلك الأيام المتناوبة التي تعود في تاريخها إلى دستور العام 1926 الذي كرّس لبنان ككيان لطوائف ومذاهب ستجد في لفظة (التعايش) التعبير الأقصى لطبيعة علاقتها بعضها مع بعضها الآخر.

هذه العلاقة هي كناية عن لبنان السياسي، دولة ونظام حكم.

ما جرى في لبنان هو بنسبته الضعيفة انتخابات، وبنسبته العظمى: تجديد بيعة.

و (البيعة) هي الكلمة التي تعبّر عن الفكرة المركزيّة في نظام الخلافة، وإذا كانت لا تزال معتمدة رسميّاً من بعض أنظمة الحكم في العالم العربي (المغرب والسعودية كمثال)، غير أنَّ مختلف الأنظمة فيه الملكية والمشيخيّة الأميريّة تأخذ به، حتى الأنظمة الجمهوريّة التي يحلو لها – متشاوفةً – وصف الانتخابات الرئاسيّة فيها بكونها: تجديد بيعة. ذلك لأنَّ نسبة 99% لا يمكن إعادتها إلى قاموس مفردات الانتخابات، بل إلى نظام الخلافة المطلق، الذي يجد مرجعيته في الآية القرآنيّة (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم – النساء 59).

ولا تعني المرجعيّة القرآنيّة لنظام تجديد البيعة، أنه معتمد من الطوائف والمذاهب الاسلاميّة المحمّدية وحدها، بل تأخذ به مختلف طوائف ومذاهب لبنان بما فيها المسيحيّة، وعلى ذلك يخضع لبنان لشكل من أشكال نظام وثقافة تجديد البيعة، مع اختراقات محدودة لثقافة الانتخابات ومعناها.

يخضع نظام تجديد البيعة لـ (لبنَنَةٍ) خاصة، تتمثل في جوهرها بالحضور الطاغي للمعنى الهويّاتي عند الجماعات الطائفيّة والمذهبيّة، على النحو الذي يحيل الانتماء إليها يأخذ المعنى الوجودي المصيري والنهائي، والتمرد عليها سيشكل الطريق للخروج من هذا المعنى نحو المجهول في ظل نظام (التعايش) الذي تتضامن مكوناته في إنجاز المعنى الهويّاتي والدفاع عنه حتى النهاية.

وعلى ذلك، لا يكون المرشح عن الجماعة الطائفيّة أو المذهبية (فرداً) مستقلاً بالمعنى الاجتماعي والسياسي والثقافي ويحمل مشروعاً خاصاً، بل هو عبارة عن (رمزٍ مُكثف) للجماعة كلها التي تجد نفسها (مرشحة) بواسطة هذا (الرمز) الذي يجب أن ينجح في الانتخابات ليس لينجز أعمال النائب في مجلس النواب، بل ليؤكد حضور الجماعة الطائفية في المكون اللبناني، حيث اجتهدت هذه الجماعات في اختراع مصطلح (الميثاقية) كتعبير عن حضورها في هذا المُكَون.

على هذا النحو، وبنسبتها العظمى، تشكّل الانتخابات المناسبة التي تؤكد فيها الجماعات الطائفيّة والمذهبيّة اللبنانيّة حضورها وهويتها، دون الالتفات إلى برنامج زعيمها، وسلوكه، وأخلاقه، وفساده!! حيث تهبّ الجماعة لتحمي زعيمها (الفاسد)، لأنَّ فساده (حلال) طالما على حساب الدولة من جهة، وبكونه من جهة أخرى، يحمل مفتاح باب (الميثاقيّة) الذي دونه تظل الجماعة خارجاً في العراء!!

وفق هذا المعنى، تجري الانتخابات في لبنان ومنها الأخيرة التي شهدت نجاحاً لممثلين عن (المجتمع المدني) غير التقليدي، وهو (مجتمع) غامض وملتبس وإن تكنّى بـ (الثورة)، كما أنَّ صفة التغيير التي يحملها عالياً لم تكشف بوصلتها واتجاهها على نحو واضح وموثوق إلى الآن…

 أدت هذه الانتخابات إلى نتائج تتمحور حول تساؤل مركزي مركّب: ماذا ينتظر لبنان بعدها؟ هل يتجه نحو حالة صدام بين مكونات فيه تحمل مشاريع متناقضة؟ ولماذا لا يمكن تجنّب هذا الصدام؟

على نحوٍ مباشر، يبدو مفتاح مقاربة هذا التساؤل، في السؤال الاضافي التالي: كيف شكّل سمير جعجع بديلاً من سعد الحريري ولماذا؟

خروج سعد الحريري من المشهد السياسي، ليس ضرباً من (الوَلدَنة)، بل هو تعبير عن نهاية العصر الذهبي للحريرية السياسيّة من جهة، ومؤشّر لوضوح رغبة الجهة (المُبعدة) في العمل على إنجاز هدف لم يتمكن سعد الحريري من إنجازه، وربما لا يرغب في العمل له إلاَّ وفق آليات محددة خاصة به تأخذ تقليدياً بمبدأ التوافق العام.

دون أي شكّ، الهدف هو سلاح المقاومة (سلاح المقاومة وصف مجرّد لسلاح المقاومة الاسلاميّة الذي هو سلاح حزب الله)، والوصول إلى إنتاج حالة الصدام مع حزب الله حتى ولو بتكلفة مفتوحة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً… وربما ستكون تكلفة هذا الصدام عداً ونقداً: وجود لبنان نفسه؟

الرهان التقليدي على الصدام الشيعي – السني، تراجع خلفاً ولم يعد حاضراً الآن مثلما كان في السنوات السابقة، لأسباب متعددة، وبكونه خصوصاً غير قادر في بلد مثل لبنان، من دفعه نحو المدى الذي يؤدي إلى تغيير كبير في المعطيات التي تسمح بإنجاز الهدف: (سلاح المقاومة). سيُنظر إلى الصدام السني – الشيعي في لبنان باعتباره ساحة إضافية لساحة اليمن تحديداً، وهي ساحة نازفة غير قابلة للحسم أنتجت واقعاً مربكاً وكابحاً لـ (الرؤية السعودية) المستقبليّة بالدرجة الأولى، وراكمت من رصيد القوة الجيوسياسيّة لإيران من جهة ثانيّة.

منذ حرب تموز2006 وفي خلالها، بدا بوضوح أن السلاح الذي أنجز الانتصارات وأدى إلى انسحاب إسرائيل من الجنوب وأنتج واقع توازن استراتيجي معها، هذا السلاح نفسه بحاجة إلى (حماية لبنانيّة) خاصة تكسبه شرعيّة ميثاقية في ظلّ تبني المقولة الثلاثيّة الشهيرة: جيش – شعب – مقاومة. التي عادة ما كان يُؤخذ بها في البيانات الوزارية في ظل توازن قوى إقليمي – دولي.

ودون مواربة أيضاً شكّل التيار الوطني الحر بقيادة الجنرال ميشال عون (مع الأخذ بالاعتبار موقف تيار المردة بقيادة سليمان فرنجية)، العنصر الأساسي في تأمين تلك الحماية، التي لا تزال قائمة إلى اليوم. بدا تفاهم مار مخايل الذي وقعه الجنرال عون مع السيد حسن نصرالله في 6 شباط 2006، وكأنه استباق استراتيجي للجم الاتجاه نحو القضاء على سلاح المقاومة عبر حرب تموز وفريق 14 آذار الذي كان يمسك بالدولة (عشاء السفارة مع وزيرة الخارجيّة الأميركيّة كوندوليزا رايس في أثناء الحرب يؤرخ لموقف فريق 14 آذار).

من حينها وإلى الآن (الحماية اللبنانيّة الميثاقيّة) لسلاح المقاومة تؤمنها (الجماعة المسيحية) المارونيّة خصوصاً، والتي تقليدياً كانت في الجهة المعاكسة منذ استقلال لبنان. بهذا المعنى يمكن القول إن المارونيّة السياسيّة بأحد جهاتها الرئيسة أحدثت انقلاباً على الموقف العام للمارونيّة السياسيّة التقليديّة بمعظم مكوناتها.

وفق هذه الرؤية، بدت القوات اللبنانيّة بقيادة سمير جعجع كـ (جهة مثاليّة) وفريدة لإنجاز الانقلاب المطلوب، بعد تأمين ما يلزمها سياسيّاً بمراكمة قوة إضافيّة لها في الساحة المسيحيّة على حساب القوى الأخرى، خصوصاً منها التيار الوطني الحر الذي يتحمل وزر الفشل العام للدولة في مختلف الأصعدة.

الآن، كيف يمكن أن يكون رئيس تنظيم ماروني مسيحي الحليف الأول للسعودية، في سابقة لم تحدث على مدى تاريخ لبنان المعاصر؟ يضرب بسيفها كما لم يفعل أي حليف سني لها سابقاً، بمن فيهم رفيق الحريري؟

الجواب، مرعبٌ ومُخيف، لأنه في العمق، يحمل رؤية أميركيّة – إسرائيليّة:

1-القوات اللبنانيّة، هي الجهة التي تكاد تكون وحيدة، معبأة ومعدة ومستعدة، بل لديها شهوة واضحة للصدام مع حزب الله (أحداث الطيونة في تشرين أول 2021).

2-من المؤكد أنَّ عدم التوازن في القوة يبدو واضحاً. لا مجال للمقارنة بين قوة حزب الله وقوة القوات اللبنانيّة. إذاً أين يبدو الرهان في هذه المواجهة المُشتهاة والمطلوبة؟ دون أدنى شك، يبدو في الوصول إلى الصدام أولاً الذي سيتسبب استطراداً بإعادة تموضع للقوى اللبنانيّة من جهة، وإلى حضور مختلف للقوى الدوليّة – الأميركيّة تحديداً – من جهة مقابلة.

3-سيُوصف الصدام بكونه مواجهة مسيحيّة – شيعيّة، ما يؤدي إلى نزع سمعة حزب الله (المسيحية) التي اكتسبها في مواجهة داعش وغيرها من التنظيمات التكفيرية، كما ويضع التيار الوطني الحر في موضع المتواطئ مع جهة تحارب المسيحيين.

من هنا تبدأ (الحماية اللبنانيّة الميثاقيّة) بالانحسار خلفاً، ويظهر حزب الله كتنظيم مذهبي وعارٍ من أي لبوس لبناني، في ظلّ عدم وجود قوى وازنة إلى جانبه: مسيحيّاً وسنيّاً ودرزيّاً.

سيؤدي هذا السيناريو، وفق هذه الرؤية، إلى صدام مفتوح له طابع الحسم النهائي، الأمر الذي يجعل من وجود لبنان مهدداً أكثر من أي وقت مضى. ومن المؤكد أنَّ المكوّن المسيحي سيدفع التكلفة الكبرى التي قد تعني هجرة إضافيّة وغير مسبوقة إلى الخارج وانحساراً نحو وضع (أقلوي) غير مسبوق سيحيل الوجود المسيحي في لبنان إلى حالة أقرب للرمزية منها إلى الواقع!!!

يفسّر هذا السيناريو إلى حد كبير، السياق الذي جرت الانتخابات فيه والنتائج التي تمخضت عنها، فبمقدار ما كانت هذه الرؤية خلفية لإعادة إنتاج القوات اللبنانيّة من منصّة الانتخابات، كانت أيضاً حاكمة لطريقة حزب الله في إدارة العمل الانتخابي الذي تأسس على أوليّة الحفاظ على الجهة المسيحية المولج بها وظيفة (الحماية اللبنانية الميثاقية) مهما كانت التكلفة التي يمكن دفعها من رصيد (الحلفاء الآخرين).

هل سيتمكن لبنان من النجاة من حكم ومسار هذا السيناريو؟

المؤشرات في أغلبها، تقول وللأسف الشديد: لا.

لكن، ما هو العطب البنيوي في (المقاومة وسلاحها وأهلها)؟

(المقال القادم: في نقد المقاومة.)

‫4 تعليقات

  1. مقالة لا تقف فقط عند إضاءة ما غمض على القارئ البعيد عن تشابكات الساحة اللبنانية، بل تلقي بالكشف على جوانب كثيرة، فهمتها بصورة اوضح بعد القراءة التي حولت خشيتي على لبنان الى خوف حقيقي عليه، اتمنى من الايام القادمة ان تؤكد انني اسرفت مثلك في الخوف.
    في انتظار مقالتك القادمة
    محبتي

  2. القوات والمارونية السياسية يفضلون لبنان الصغير اذا فقدوا السيطرة على لبنان الكبير كما حلل سعاده منذ قرن تقريبا وهذا سيكون هذفهم في المرحلة القادمة عبر اظهار الشيعة وحزب الله كتهديد لوجودهم وطرح لبنان الفيدرالي كمخرج وحل

  3. قراءة سليمة لمجريات الاحداث وأدوار اللاعبين فيها، وأشاركك الخوف حيث عودتنا أميركا وأتباعها على تنفيذ الأجندات المتعلقة بهم دون اي رادع انساني كما عودنا سمير جعجع على دور المرتزق في خدمة الكيان الغاصب حتى وان ادى ذلك الى تهجير المسيحيين كما حصل سابقاً في أكثر من منطقة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق