المقال

الفِتنة…؟

في حراسة الفِتنة وتأبّيدها

-1-

في سياق الحياة بـ (الإكراه) التي تمارسها الطوائف والمذاهب المقيمة في أرضنا المعذّبة، وكلما وقع قتيل من إحداها لسبب طائفي أو مذهبي وربما لسبب سياسي، أو لسبب شخصي، أو لسبب لا علاقة له لا بالطوائف ولا بالدين ولا بالسياسة، بل وقد يكون القتيل مهرّباً أو تاجراً بالممنوعات من المخدرات إلى الأعضاء البشريّة…أو ربما يكون عميلاً سريّاً لجهاز مخابرات دولة مصنّفة كعدوٍ… كلما حدث ذلك يتم شحذ السيوف ورصّ الصفوف فتقطع الطرقات وتُشعل الحرائق ويتم تحطيم السيارات والمحال التجاريّة في تمرين أولي استعداداً للمعركة المُشتهاة والتي يسارع (الحكماء) لوأدها وهم يرددون تلك العبارة التي يتم نسبها (…؟) لأحاديث الرسول: “الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها”.

-2-

منذ 1410 أعوام تم تدشين تاريخ الفتنة بمقتل الخليفة الراشدي عثمان بن عفان (سنة 35 هجرية)، أُسميت بالفتنة الكبرى، وأنجبت سلالة من الفتن الصغرى ودون توقف، وبسبب من سيلانها في تاريخنا أمسى وجودنا (فتنوياً)، فاستحالت الصفة العارضة إلى صفة (جينيّة – وراثيّة) عامة وشائعة، لا تبدو كوشم رمزي على أجسام الطوائف والمذاهب والملل والنحل، بل تبدو كروحٍ لها. دونها يتهالك جسدها ويختنق بغيابها.

على هذا النحو، أخذت الفتنة الكبرى مكانة الدعوة المحمدية، فأمست المرجعيّة المؤسسة لبنيّة (الوجود الإسلامي) وسرديته التاريخيّة.

في إطار أوسع، تم تعميم المورّثة الفتنويّة على مختلف الأديان وطوائفها، فلم تعد محصورة ومصادرة لحساب نشوئها في فترة شباب الدعوة المحمديّة، فها هي تقيم حيث يقيم الدين مسيحيّاً كان أو محمديّاً. الفتنة بتنويعاتها ومختلف نماذجها نائمة في فراش الجميع، وغبّ طلب من يوقظها.

-3-

بالرغم من الخلفيّة الكارهة للفتنة، غير أنَّ العبارة الشائعة والمتداولة تعمل على (تأبّيدها)، فلا دعوة لاجتثاثها والقضاء عليها، بل تركها نائمة هانئة وحسب. لعنة الله ستلحق بمن يوقظها من غفوتها أو سباتها. ستبقى مستلقية تتمطى كما تشاء فتركل بأرجلها غير القابلة للعدّ بمن يحيط بها، وتشخر بأعلى ما تمكّنها حنجرتها العابرة للقرون، وتخمش بأظافرها الشيطانيّة صفاء وجودنا، وتحجب بسواد ليلها الطويل نور شمسنا المتعثّر بها كل صباح… يمكنها أن تقتات بدماء ضحية من هنا أو من هناك، تلزمها هذه القرابين الدمويّة لإشباع شهوتها وتأمين ديمومتها… كل ذلك وغيره يبقى من شروط وجودها ووجودنا كما تراه هي وحدها… تقوم به وهي نائمة فكيف إنْ استيقظت؟

-4

الأحزاب السياسيّة، التقليديّة منها وغير التقليديّة، الإصلاحيّة والجذريّة، أصيبت بوسواس الفتنة وخنّاسها، فاستولدت مصطلحاتها الخاصة التي تشهرها بوجه من يقترب من سرير الفتنة محاولاً إيقاظها. “العيش المشترك – السلم الأهلي”، عناوين يُؤمل أن تكون كابحة لمحاولات إيقاظها ودفعها نحو تشييد المذبحة الجماعيّة.

“العضّ على الجرح” لجمٌ لشهوة الانتقام، لكنه وربما تعطيل لضرورة الوصول إلى جحور الفتنة. مراعاة الحدود الطائفيّة والمذهبيّة والدينيّة هي بالأصل شرعة غير مكتوبة بين الكائنات الدينيّة عموماً. لكنها شرعة امتدت لتشمل الكائنات السياسيّة التي أصبحت تعمل بها حتى لا توقظ الفتنة من نومها!

هكذا وقعت الكائنات السياسيّة، خصوصاً الأحزاب الجذريّة، تحت سيطرة وسواس الفتنة ومصطلحات ثقافتها والأهم نظامها الذي يقضي بحراستها نائمة خوفاً من إيقاظها!

-5-

في أحد معانيها، الفتنة هي البليّة، غير أنَّ البلاء لا يتأتى فقط من استمرار ضخ الدماء الملوثة في شرايين الحقد، بل وأيضاً من الجمال… بلى، الإيقاع الديني – الفقهي يؤكد مسؤوليّة الجمال عن حصول البلاء. فالجمال فتنة يجب أن يُستر ويُغطى وينام. ولذلك يتراجع الجمال وينحسر وتتقدم البشاعة وتتمدد وتسترخي.

ليس جمال المرأة هو المقصود هنا وحسب، بل جمال الفكر والفن الذي لا يأخذ سحنته البهيّة إلّا من فعل الإبداع فيه. الإبداع يوقظ فتنة التخلّف والتفاهة… لذلك الإبداع عندنا مرذول وملعون ومطلوب رأسه للشنق وروحه للخنق.

والحال، كيفما التفتنا نحو البشاعة أو نحو الجمال، سنجد الفتنة تحيط بنا كـ (وحش أسطوري) يرسم إيقاع وجودنا الرتيب، أية حركة مغايرة قد توقظه فيقع البلاء الفظيع!!

-6-

التهمت الفتنة من دمائنا، أكثر بما لا يقارن بما التهمه أعداؤنا، فما الفرق بين أن نقتَتِل أو نُقتل؟

-7-

نحن مخطوفون، خطفتنا الفتنة: نحرسها وهي نائمة، ونمنحها دماءنا وهي مستيقظة.

-8-

لا يستقيم وجودنا كأمّة واحدة بمجتمع واحد، إلّا بالتخلي عن مهمّة حراسة الفتنة كي تنام، وإذكاء نارها الجهنميّة عندما تستيقظ.

لا بدّ من منازلة هذا الوحش الأسطوري وقتله وتنظيف فراشنا من آثاره.

المجتمع الواحد يقتل الفتنة – التنين، وليس العيش المشترك الذي يحرسها.

الأمّة الموحدة تقتل التنين وليس السلم الأهلي الذي يحرس الاقطاعيات السياسيّة، والحزبيّات الدينيّة، والاحتكارات الرأسماليّة.

-9-

مواجهة عدونا تبدأ من فراشنا الذي ننام عليه.

-10-

فراشنا: سرير وجودنا مُلغّم بالفتنة، لا بدّ من انتزاع اللغم، لنتمكن من تأسيس مجتمعنا الجديد، وإلّا سنكون جميعاً حرّاس وحش اسطوري، استمرار وجوده يؤكد أننا سنظل نقيم في الخرافة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق