المقال

أليزابيت 2 = بريطانيا العظمى

مَن قال: إنَّ الإمبراطوريّة غَرُبت عنها الشمس...!!

-1-

(أليزابيت الثانية، بفضل الله، ملكة المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وإيرلندا الشمالية، وملكة الممالك والأقاليم الأخرى، ورئيس الكومنولث، والمدافعة عن الإيمان).

صاحبة هذا الاسم، بصفاته الإمبراطورية… ماتت.

ماتت أليزابيت الثانية يوم 8 أيلول في قلعة بالمورال ودفنت في 19 أيلول في قلعة ويندسور التي تحمل اسم عائلتها، وما بين الوفاة والدفن، وما بين القلعتين كان جثمان الملكة قيد أكبر استعراض امبراطوري في العصر الحديث.

-2-

في التاريخ البريطاني هنالك ثلاث جنازات دولة لثلاثة رؤساء للوزارة: أرثر ويسلي (1769 – 1852) الذي يُوصف بالعسكري الأسطوري وخصوصاً بعد هزيمته لنابليون بونابارت في واترلو1816، وويليام جلادستون (1809 – 1898) الذي اشتُهر بإصلاحاته وقدرته على تسوية وضع إيرلندا والذي يُوصف بأنه من أعظم قادة بريطانيا، وونستون تشرشل (1874 – 1965) الذي قاد بريطانيا للانتصار في الحرب العالميّة الثانية، والذي يُعتبر عموماً من أكثر الشخصيات تأثيراً في التاريخ البريطاني، بل (وأعظم بريطاني على مر العصور).

إلى وقت قريب، اعتُبرت جنازة ونستون تشرشل 1965 أكبر جنازة في التاريخ، لكنها قطعاً لم تكن جنازة عفوية، بل تم التخطيط لها مسبقاً عندما كان تشرشل لا يزال حياً يأكل ويشرب ويدخن السيكار. حينها، وافقت الملكة أليزابيت الثانية على أن يحظى تشرشل بجنازة دولة حين يموت وأن يتم التحضير لهذه الجنازة منذ صدور الأمر الملكي. البرنامج المُسبق والسري أخذ اسم (عملية الأمل لا) ووفق ترتيبات هذا البرنامج جرت وقائع جنازة تشرشل.

الشعور بالعمق الامبراطوري للتاريخ البريطاني يفرض نفسه هنا حتى على الجنازات التي تخضع لتقاليده ومتطلباته وحاجاته. وفي الوقت الذي لم يكن فيه لتشرشل أي خيار أو وصية تخص جنازته، كان ملهم المقاومة الفرنسية ومؤسس جمهوريتها الخامسة الجنرال ديغول حازماً بمضمون وصيته التي تنصّ على رفضه إقامة جنازة دولة له، فترك قادة العالم في كاتدرائية نوتردام في باريس يجتمعون حول طيفه، فيما كان جثمانه في بلدته كولومبي لي دوكس إفليس (1970). دفن ديغول على طريقة الثوّار أو الفلاسفة، فيما دفن تشرشل كما يليق بالنبلاء الارستقراطيين وبالأخص كما يقتضي البرنامج الامبراطوري البريطاني.

هامش: مع مطلع ستينيات القرن العشرين ظهر فريق الخنافس –The Beatles بقيادة جون لينون، محرّكاً ومغيّراً إيقاع شباب أوروبا والعالم ومطوبّاً نفسه كـ (أيقونة) عابرة للزمن مع توالي الأجيال.

 وفي العام 1968، ثار شباب فرنسا على ديغول بقيادة (فلاسفة جدد؟) لم يتمكنوا في النهاية ومع استقالة ديغول من الاستمرار خطوة واحدة مؤثّرة، إلاَّ من انخرط منهم في فرق الاستطلاع التي تخدم استراتيجيات عابرة للحدود لا شأن لها بالفلسفة قديمها وجديدها (برنار هنري ليفي) كمثال بارز.

جون لينون والبيتلز، التعبير البريطاني للتمرد والتغيير، وبرنار هنري ليفي هو المقابل الفرنسي. (هذا مجال لدراسة معنى الرسوخ البريطاني الامبراطوري واختلافه عن الجنوح الفرنسي).

-3-

البرتوكول الذي يحدد بصرامة المكان المخصص للمدعوين لحضور جنازة الملكة، هو ترجمة حرفيّة لصفاتها: التاج الامبراطوري – الإمبراطورية بممالكها وأقاليمها ودولها (الكومنولث)، ومن ثم من هم خارج هذه الصفات كلها.

حُكم على فلاديمير بوتين بالاستبعاد والحرمان من نعمة الحضور أمام جثّة جلالة الملكة، فيما عُوقب بعض المسؤولين من المدعوين الصينيين بحرمانهم من إلقاء نظرة الوداع ليقضوا بقية عمرهم وهم يحملون هذه العاهة…!

الرئيس الأميركي جو بايدن وزوجته من (خارج الصفات). جاء مكانهما قي الصف رقم 14، ما جعل دونالد ترامب يقول ساخراً: (هذا هو الوقت المناسب لرئيسنا للتعرّف على بعض قادة دول العالم الثالث). ولكن ينسى ترامب أن العديد من هؤلاء القادة هم من عائلة الكومنولث التي تضم 53 فرداً – دولة وكانوا في صفوف متقدمة، وبسبب حجب دعوة رؤساء فنزويلا وأفغانستان… وجد بايدن نفسه مستسلماً لغطات نوم متقطعة أو الاستماع إلى تذمّر زوجته؟

كثيراً، ما تساءلت عن الاستقلال الأميركي ومعناه؟

استقلال مَن عن مَن؟

في أحد معانيه، ليس سوى ولادة الإمبراطوريّة البريطانيّة لـ (طفلها) العملاق الذي مزّق تلافيف رحم أمه وأسال دمها وهو يخرج إلى الحياة.

الوليد العملاق، سيكون وحيداً على الضفة الغربيّة للمحيط الأطلسي، ولكن دائماً تحت رقابة أمه من الضفة المقابلة.

من الولادة 1776 وحتى نهاية الحرب العالميّة الثانية 1945، لم يتحرّك الطفل كثيراً خارج سريره الجيوسياسي، إلى أن حلّت لحظة تلك الولادة الثانية بعد إقدامه على ما هو غير مسبوق: إفناء مدن وحياة كاملة بالقنبلة النووية (هيروشيما وناغازاكي). حينها أذعنت الجزيرة – الأم ورضخت لمنطق القوة لترى وليدها يكرر ولادته، ولكن كـ (طفل جيوبوليتيكي) أرّخ ولادته رسماً العملاق السوريالي سلفادور دالي.

في مأتم الملكة، وجهّت له الامبراطوريّة درساً صارماً: أنت عملاق… نعم، ولكنك طفلي وأنا أمك: مكانك اليوم في الصف 14.

-4-

 لم تأخذ أليزابيت الثانية صفتها كـ (مدافعة عن الإيمان) من اسمها الذي هو ترجمة لاسم أليصابات، إحدى الشخصيات الرئيسة في انجيل لوقا خصوصاً. بل وردت هذه الصفة كمنحة فاتيكانية من البابا ليو العاشر للملك هنري الثامن في العام 1521وذلك لوقوفه إلى جانب البابوية بوجه اللوثريّة، وبالرغم من سحب هذا اللقب منه بعد عدة سنوات، إلاَّ أن هنري الثامن وبانقلابه على البابوية وإصداره لما يعرف بقانون هنري (1534) أكد أنَّ التاج الإنكليزي ومن ثم البريطاني هو (أعلى سلطة على الأرض لكنيسة إنكلترا).

منذ القرن السادس عشر وإلى الآن اتخذت الكنيسة صفة دنيويّة بهويّة وطنية راسخة هي الإنكليزية، وخضعت لسلطة الملك / ة الذي يعتبر رئيس الكنيسة، وهو من يعين رئيس أساقفتها.

أطروحة فصل الدين عن الدولة، لا تأخذ في بريطانيا المعنى ذاته الذي أخذته في فرنسا وغيرها، فالدين في بريطانيا معبّراً عنه بالمؤسسة الكنسية الإنجليزية، هو من مؤسسات التاج البريطاني ويخضع لاستراتيجيته وبرنامجه ومتطلباته. وصفة (المدافع عن الإيمان) الواردة في الصفات الملكية لم تعد لقباً تشريفيّاً، بل صلاحية واقعيّة – تشريعيّة دستوريّة.

أليزابيت الثانية، كما أي جليس على عرش الامبراطوريّة منذ هنري الثامن، كانت ملكة الناسوت الامبراطوري، كما ملكة اللاهوت الانكليزي.

-5-

فستان عرس أليزابيت الثانية قماشه دمشقي، النسيج وحسب. التصميم والتفصيل والخياطة إنكليزية.

قبل هذه المعلومة كنا نتباهى باقتناء الجوخ الإنكليزي المشهور، والذي يعتبر مغرياً على نحوٍ خاص لمن نطلق عليهم بـ (ماسحي الجوخ). التباهي هنا وحسب، بالنسيج الدمشقي العابر نحو قصر باكنغهام والجوخ الإنكليزي القادم نحو قصور بلا أسماء، فيما المقص بيد الخياط الإنكليزي دائماً.

الخياط الإنكليزي وبمقصه الجيوسياسي فصّل لنا (وجودنا) منذ أكثر من قرن، ولا زلنا نتسربل بذلك الرداء الذي يتمزّق ويتعفّن يوماً بعد يوم فيما نحن نصفّق لاليزابيت الثانية وفستانها الدمشقي النسيج، وننتظر قطعة من الجوخ اللندني كي لا تنقرض مهنة (ماسح الجوخ).

-6-

في مركز دمشق ثمّة جسر اسمه جسر فكتوريا. يظن العديد ممن يزورون المدينة أن اسمه يعود للملكة الإنكليزية الشهيرة فكتوريا التي جلست على العرش البريطاني بين العامين 1837 و1901.

الملكة فكتوريا هي جدّة جدّ الملكة أليزابيت، فيما يعود اسم الجسر إلى أوغستا فكتوريا زوجة الملك الألماني غليوم الثاني، حيث وبمناسبة زيارتهما دمشق في العام 1898، أخذ الجسر اسم الملكة تكريماً لها.

أوغستا فكتوريا ملكة ألمانية… نعم، لكنها ابنة اخت الملكة الإنكليزية الشهيرة. والحال كيفما التفت نحو الفستان أو الجوخ أو الجسر في وسط دمشق ستجد أثراً انكليزياً ما…؟

تبقى الجراحة الجيوسياسيّة الإنكليزية مع الفرنسيّة التي تعرّضنا لها غير محتاجة إلى آثار تدل عليها، خصوصاً بعد أن اكتسبنا هذه المهنة وأدمنّا على جراحة أنفسنا وتقطيع وجودنا قطعة وراء قطعة وراء أخرى… إلى أن وصلنا إلى التحسّر على بزلات الجوخ الإنكليزي: طراز سايكس – بيكو، وطراز سان – ريمو.

وعد بلفور، لم يكن من طراز جيوسياسي، بل زراعة لجينات ذات تعدد سرطاني لا يقف إلاَّ عند حدود الخرافة المتوافقة مع الشهوة الرأسماليّة العارمة التي لا يبدو أنّها ستتوقف، حتى لو توقف زمن غرينتش!

-7-

تملك ولا تحكم…!

بلى، ولكنها تملك مَن يحكم.

ذلك هو التاج البريطاني الذي لا يحكم كومنولث الأمم كله، ولكنه يملكه من مشرقه في نيوزلندا إلى مغربه في كندا.

-8-

الاستعراض الامبراطوري بمناسبة موت ودفن الملكة أليزابيت الثانيّة، جاء برسالة متعددة الأوجه والدلالات:

النطام الامبراطوري البريطاني عميق وراسخ ويتجه نحو تأبّيد نفسه.

ما يحدث فقط: مات الملك / عاش الملك.

العملاق على الضفة الغربيّة يبقى ابن الامبراطوريّة.

بريطانيا العظمى لم تغب شمسها من يوم شروقها مع خروج تلك القلة من الغزاة من مرافئ تلك الجزيرة العجيبة للبحث عن كنوز العالم وثرواته … والبحث مستمر حتى آخر لؤلؤة في قاع أي بحر… مجوهرات العالم ملك التاج وحده.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق