-1-
كتبت لي مُؤرّخة ومُفكّرة مرموقة (أتحفّظ عن ذكر اسمها احتراماً للخصوصيّة): “آليت على نفسي ألّا أكتب لأنكأ الجراح، لكني قلت للأصدقاء منذ لحظة 7 أكتوبر إنَّ حماس ورّطت الجميع”.
فاتني أنْ أتساءل مع المُفكّرة الأكاديميّة: لكن مَن ورّط حماس؟
إلى هذا اليوم لا زالت الإبادة الجماعيّة لـ غزّة بشراً وحجراً، والتدمير الممنهج لجنوب لبنان وضاحية بيروت الجنوبيّة، وما نتج عن الحرب الإسرائيليّة عليه… إلى هذا اليوم لا زلنا نداور بالكلمات في تناول تلك الكارثة خجلاً من جراح شعبنا النازفة دون حدود، وخجلاً من بطولات عظيمة لم تتمكن، بالرغم من ملحميتها من وضع حدٍّ لهذه الكارثة التي تتدحرج على وسع مدى الوطن.
لا يحتمل وضع الأمّة الانسياق في “شعبويّة كارثيّة” عمياء، ولو كانت تحت عنوان: المقاومة، فالجراح التي يُمكن أن تُنكأ ستندمل سريعاً ببلسم الحقيقة، فيما جرح الأمّة المفتوح سيستهلك دماءها حتى آخرة نقطة، وسيودي بمصيرها في غياب ذلك البلسم.
-2-
“مع هذا العراء الاستراتيجي التام، حسم هذه المعركة سيكون في وسط الهلال الخصيب.
ليس لأن نتنياهو يتوعد بتحقيق (نبوءة) أحد أنبياء التوراة:
“وحي من جهة دمشق: هوذا دمشق تُزال من بين المدن وتكون رُجمة من ردمٍ.” (أش 17/1).
بل، لأنَّ ذلك الوسط هو السرّ الاستراتيجي الكبير مذ تأسس كحاجز يفصل بين الامبراطوريتين الرومانية غرباً عن الفارسيّة شرقاً.
هنالك ولدت داعش وقامت بوظيفتها على نحو مثالي: إنتاج المشاع الجيوسياسي؟
مَن حلّ محلها، مَن يدير ذلك المشاع؟ مَن يوجد هناك؟
الأميركيون هناك، لا ليبحثوا عن الكمأة السوريّة الطيبة … إنهم هناك ليقفلوا كل هذا المشهد الذي استدعاه حريق غزة.
-خاتمة مقال طويل عن عملية طوفان الأقصى، بعنوان: الطوفان / الحريق – الصدمة، نُشر في 29 تشرين أول 2023”
لماذا الحسم في الوسط؟
لأسباب جيوسياسيّة راسخة في فصول التاريخ، وهي الأسباب التي دفعت باتريك سيل لاجتراح ذلك العنوان الشهير لكتابه: الصراع على سورية. في مقدمته يثبّت هذه القاعدة المنهجيّة: “… والحقيقة أنَّ شؤون سورية الداخليّة تبدو وكأنها فاقدة المعنى تقريباً ما لم تُعزَ إلى القرينة الأوسع، وهي جاراتها العربيّات أولاً، والقوى الأخرى ذات المصالح ثانيّاً. وليس من قبيل الصدفة أن تعكس سورية في تركيبها السياسي الداخلي منافسات جيرانها وخصوماتهم. وإني لآمل أن أستطيع تبيان أنَّ من يقود الشرق الأوسط، لا بدَّ له من السيطرة على سورية. صفحة 13 – 14، طبعة 1986”
إذاً، تلازم العلاقة بين سورية – الجمهورية العربيّة السوريّة – والنفوذ والسيطرة على الشرق الأوسط، شأن راسخ استدلّت عليه مختلف الاستراتيجيّات الخارجيّة، الاقليميّة والدوليّة. هذا الاستدلال القديم هو ما دفع بنيامين نتنياهو للقول إنَّ الوقت قد حلّ لقيام شرق أوسط جديد، لتبدأ للتو الأحداث المتسارعة فعلها من بوابة حلب، مع سريان قرار وقف إطلاق النار في لبنان، ولتدقّ أبواب دمشق السبعة التي انفتحت على وسعها، معلنة بداية فصل جديد في تاريخنا المعاصر.
الأخذ بحيثيّة باتريك سيل “… والحقيقة أنَّ شؤون سورية الداخليّة تبدو وكأنها فاقدة المعنى تقريباً ما لم تُعزَ إلى القرينة الأوسع…” بالرغم من كون المجال الزمني لبحثه محدد ما بين العام 1945 والعام 1958، لا يعني إطلاقاً الدعوة لتجنّب البحث في الأسباب الداخليّة للأزمة والاكتفاء بالأسباب الخارجيّة، بل لأنَّ التغيّرات الاستراتيجيّة التي تدفع إليها الإرادات الخارجيّة ستجعل دائماً، بالأمس واليوم، من “الأسباب الداخليّة” بنداً وظيفيّاً في خدمتها، والسبب في ذلك لا يعود لعدم أحقيّة ووجاهة ما تنطوي عليه هذه الأسباب، بل إلى درجة التغوّل الكبير للاستراتيجيّات الخارجيّة في الشأن السوري، وهو تغوّل يضع مصير سوريا الطبيعيّة برمّتها في مهب الرياح العاصفة من كل صوب.
-3-
النظام السياسي الذي حكم البلاد منذ العام 1963، هو المسؤول عن نشوء الأسباب الداخليّة للأزمة السّوريّة الراهنة، وبسبب من طبيعته وبنيته الفكريّة ومرجعيّاته وسلوكيّات إداراته ومظاهرها المَرَضيّة ساهم على نحوٍ كبير في إنتاج تلك “الثقوب السوداء” التي منها تدخل الإرادات الخارجيّة وتتوسّع وتتغوّل.
طوال عمره المديد (1963 – 2024) لم تحاول أية سلطة حاكمة من إجراء إصلاحات أو تعديلات رئيسيّة على النظام السياسي، الذي بدا ممانعاً وعنيداً ومُقفلاً. مختلف التعديلات التي أجريت، لأسباب متعلقة بنشوء أزمة كبرى في مناسبات متعددة بدت كـ (إعادة تدوير) تجميليّة للنظام السياسي نفسه.
عموماً، نظام حكم الحزب الواحد، بحكم طبيعته، غير قابل للإصلاح ولا للتعديل. يُولد معتبراً نفسه كائناً سياسيّاً مكتملاً غير منقوص، فلا يعير التاريخ وقوانين علم الاجتماع أهمية، ولا يكترث بعلم السياسة ودينامياته، ولذلك لا يخوض معركة سياسيّة مع قوى سياسيّة أخرى مدنيّة قد تجعله فائزاً أو خاسراً بـ (النقاط)، بل يسقط صريعاً بالضربة القاضية أمام قوى شموليّة إقصائيّة.
-4-
وحتى لا تكون شؤون سورية الداخليّة فاقدة المعنى، لا بدَّ من النظر إلى “القرينة الأوسع” كما يقترح باتريك سيل.
في 15 آذار 2011، بدأت الاحتجاجات الشعبيّة تكشف عن نفسها في شوارع المدن الكبرى، في دمشق وحمص ودرعا … بدأت تحت عنوان الحريّة ورفيقاتها من الحقوق السياسيّة. لم يطل الوقت كثيراً لتتدحرج هذه الاحتجاجات نحو المياه العميقة للأهداف الاستراتيجيّة الكبرى للدول الاقليميّة والدوليّة.
خلال وقت قصير، ومع دخول الأزمة في فصل العنف، تغوّلت الإرادات الخارجيّة وبدا أنَّ الصراع يدور حول المحتوى الذي يجب أن تُملأ فيه هذه الدولة التي تحتّل موقعاً في الجغرافيا السياسيّة هو بمثابة (العقدة)، التي يتقاطع فيها عمودان، أولهما يبدأ من روسيا وينتهي في المحيط الهندي، وثانيهما يبدأ في سورية – الشام نفسها وينتهي في نقطتين متواليتين الأولى في إيران والثانية في الصين.
باستدلال بسيط، يمكن القول إنَّ هذه الشبكة الجيوسياسيّة ستنقلب رأساً على عقب، إن انقلبت (العقدة) على معناها.
لهذا السبب ازدحمت تلك الساحة ما بين الموصل شرقاً وساحل المتوسط غرباً، وما بين الحدود التركيّة الراهنة شمالاً والحدود الأردنيّة جنوباً… ازدحمت بمختلف القوى الدوليّة والاقليميّة إن كان بشكل مباشر، أو بواسطة ميليشيات وتنظيمات مسلحة تديرها وتشرف على أعمالها ومهماتها.
بدا مصطلح (الحرب العالميّة المصغّرى) حول سورية، مناسباً ومعبّراً ومتداولاً دون تردد.
على هذا النحو، تراجعت (الحرية والحقوق السياسيّة) خلفاً، إلى الوقت الذي لم تعد تُرى فيه مقابل تقدم المعنى الجيوسياسي المتعاظم مع توالي فصول الصراع الذي استقرّ في العام 2020، على الخريطة المعروفة التي ستبدأ بالتغير مع قيام “هيئة تحرير الشام” بدخول حلب في 27 تشرين ثاني، ولتتابع مسيرها جنوباً وتدخل دمشق في 8 كانون أول 2024.
انتصار “هيئة تحرير الشام”، وتسلّمها مقاليد السلطة، هو انتصار المعنى الجيوسياسي للأزمة السّوريّة، فيما لم يتمكن السوريون ولا في مرة من تحرير “الحريّة والحقوق السياسيّة ورؤيتهم إلى نظام سياسي حديث” من العلائق الجيوسياسيّة التي ترخي بثقلها على “الشؤون الداخليّة” التي لا “تأخذ معناها إلا بعزوها إلى القرينة الأوسع” كما قال باتريك سيل قبل أكثر من ستين عاماً.
-5-
يمكن القول، إنَّ العقدة الجيوسياسيّة المتمثلة بالدولة السوريّة – الشام، انقلبت على معناها، واتخذت موقعاً مختلفاً يؤشر إلى هزيمة ما كان يُسمى “محور الممانعة” بما فيه روسيا، وانتصار المحور الآخر الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركيّة ومن أبرز قواه تركيا وإسرائيل.
الطريقة التي انتصرت فيها هيئة تحرير الشام، تشير صراحة إلى استسلام تام لنظام الرئيس بشار الأسد، سابق لأية معركة لم تقع في الواقع. لكن هذا الاستسلام لم يكن ليحدث لولا استسلام كل من روسيا وإيران.
روسيا هُزمت في سورية قبل هزيمة الرئيس بشّار الأسد.
إيران هُزمت في سورية قبلاً، وحزب الله هُزم في لبنان قبلاً، وحماس هُزمت في فلسطين قبلاً.
آخر من رفع الراية وولّى هارباً كان بشّار الأسد.
حتى ولو صحت الأخبار التي تتداولها بعض الصحافة الغربيّة عن أنَّ صفقة متعددة الأطراف أعدّتها الولايات المتحدة واشتركت في إبرامها كل من روسيا وإيران وتركيا، قضت في أحد بنودها بالتخلي عن بشّار الأسد…؟ حتى ولو تم التأكد من ذلك، فإنَّ هذه الصفقة ما كان لها أن تتم لولا هزيمة روسيا وإيران في سورية مسبقاً.
سورية الآن، بالمعنى الاستراتيجي تحت النفوذ الأميركي – الغربي المركّب، مع حضور متعاظم لإسرائيل في الجنوب وتركيا في الشمال، وغياب شبه تام للنفوذ العربي بتنويعاته.
-6-
في 24 آب 1516 وقعت معركة مرج دابق – حلب، بين القوات العثمانيّة بقيادة سليم الأول، وقوات المماليك بقيادة قانصوه الغوري. كانت هذه المعركة التي انتصر فيها العثمانيّون الباب الذي دخلوا منه واحتلوا سوريا والحجاز ومصر وشمال إفريقيا. على أنَّ الملفت هنا، أنَّ هذه المعركة جاءت في سياق الصراع العثماني – الصفوي، حيث كانت دولة المماليك تقف إلى جانب الصفويين.
لم يضطر سليم الأول إلى خوض معارك بعدها على أرض سورية التي استسلمت مدينة وراء أخرى وصولاً إلى دمشق.
مفارقات التاريخ المذهلة، أنَّ هذا المسار عاد بنسخته الراهنة، مع هيئة تحرير الشام، ما بين 27 تشرين ثاني و8 كانون أول 2024، أي بعد 508 سنوات!!
هذا المسار هو الذي وضع الدولة العثمانيّة في الإطار الإمبراطوري، وهو الذي أجبر آخر الخلفاء العباسيين محمّد المتوكل على الله على التنازل عن الخلافة الإسلاميّة للسلطان سليم الأول في العام 1517. وبالرغم من نهاية الامبراطوريّة العثمانيّة سياسيّاً في العام 1922، وقانونيّاً في 2 تموز 1923، وواقعيّاً مع قيام الدولة التركيّة في 29 تشرين أول 1923، إلّا أنَّ الخلافة الإسلاميّة لم تُجير لأحدٍ آخر، ما يعني أنها لا تزال منذ أكثر من قرنٍ بقليل وديعة في الديار التركيّة.
ماذا يعني ذلك كله؟
يعني أنَّ العثمانيين الذين أسسوا دولتهم في نهاية القرن الثالث عشر 1299، دخلوا في الطور الامبراطوري العظيم واستولوا على الخلافة الإسلاميّة بعد قطعهم هذا المسار الذي يبدأ في حلب.
هذا المسار وأهميته راسخ في الوعي النخبوي التركي، لم يتزحزح قيد أنملة بالرغم من ادعاءات لهفة تركيا نحو أوروبا!
لهذا تشكّل “العثمانيّة الجديدة” الفضاء العام للعقل الاستراتيجي التركي الذي يدرك أنَّ عودتها إلى مرتسماتها التاريخيّة غير ممكنة إلاّ بالعودة إلى المسار الذي يبدأ من بوابة حلب!
-7-
بدأ المشروع الصهيوني استنبات جذوره على نحو محسوس في فلسطين في الربع الأخير من القرن التاسع عشر “ما بين العام 1868 والعام 1889 تمكنت الجمعيات اليهوديّة من بناء أربع مستوطنات، منها مكفا إسرائيل، وتباح تكفا”. بالمعنى السياسي، حصل هذا الاستنبات تحت ظلّ الامبراطوريّة العثمانيّة. كُتب الكثير وقيل الكثير عن علاقة المشروع الصهيوني وأركانه بالعثمانيين أولاً وبالكماليين (جمعيّة الاتحاد والترقي) ثانيّاً، ومن ثم بالأتراك عموماً. وفي تلك الكتابات والأقوال تختلط الحقائق بالأوهام، غير أنَّ بعض التبصّر المجرّد يكشف عن مشهد “جَدَلي” ما بين المشروع الصهيوني وأركان الامبراطوريّة في الهزيع الأخير من عمرها.
لم يكن السلطان عبد الحميد الثاني الذي استمر على عرش السلطنة من العام 1876 إلى العام 1909، لم يكن عميلاً للمشروع الصهيوني، كما لم يكن عدواً له. ففي الوقت الذي رفض فيه السلطان عرض تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونيّة بتسهيل استقرار اليهود في فلسطين مقابل تسديد جانب من ديون الامبراطوريّة، يعود ليقلّد هرتزل وساماً خاصاً، مع عدم قيامه بإجراءات تحدّ عملياً من نشاط الجمعيات اليهوديّة في فلسطين.
لاحقاً، ومع تولي جمعيّة الاتحاد والترقي مقاليد السلطنة، بعد خلع عبد الحميد، ومباشرتها بتنفيذ استراتيجيّة تتريك الأناضول، عبر الثلاثي (طلعت، أنور، جمال)، تم استثناء اليهود من موجبات “قانون النقل وإعادة التوطين” الذي أصدره مجلس النواب العثماني في أيار 1915، والمشهور شيوعاً باسم “قانون التهجير” الذي شكّل الغطاء للإبادة الجماعيّة التي كان ضحيتها الأرمن، والسريان، والآشوريين، واليونان.
في 26 أيلول 1918، انسحب آخر جندي عثماني من دمشق باتجاه الشمال، في الوقت الذي تمكّنت فيه الحركة الصهيونيّة في الجنوب من استكمال حركة استنبات المستوطنات بوتيرة متصاعدة. ووفق اتفاقيّة لوزان 1924، استولت تركيا على شمال سوريا، وفي محطات متتالية، خلال المئة عام المنصرمة وإلى اليوم، كانت تقضم المزيد من أراضي هذا الشمال.
منذ إعلان قيام تركيا الحديثة في العام 1923، استمرت هذه العلاقة مع المشروع الصهيوني ودولته إسرائيل، وقد أخذت أبعاداً استراتيجيّة راسخة مركّبة، اقتصاديّة، وسياسيّة، وثقافيّة.
-8-
لماذا هذا العرض التاريخي المُكثّف في هذه المناسبة؟
في المشهد الراهن للأزمة السوريّة يمكن ملاحظة عودة (الجَدَل) بين تركيا وإسرائيل، مع تعديل في محتواه، كيف؟
المشروع الصهيوني، عمليّاً بدأ في كنف السلطنة العثمانيّة، ولكنه لم يصل إلى إنتاج نفسه ككيان سياسي مستقل. انقضت الإمبراطوريّة فيما المشروع الصهيوني واصل مساره.
الآن، تركيا العائدة نحو عثمانيّة جيو سياسيّة تتجه جنوباً، فيما المشروع الصهيوني يتجه شمالاً، ولهذا يأخذ (الجَدَل) معنى العلاقة التحالفيّة – التنافسيّة. ومضمون هذه العلاقة يفسّر فصولها وتقلّباتها وبالدرجة الأهم مستقبلها.
في الجذر المرجعي العميق: العثمانيّة العائدة من الشمال التي تحنُّ إلى أرضٍ حكمتها أربعة قرون، ستجد في طريقها الصهيونيّة التي استنبتت نفسها في كنفها، ولكنها الآن تفتح كتابها الذي يعدها بالوصول إلى الفرات!
الترجمة السياسيّة المباشرة لهذه الخلفيّة واضحة فيما تقوم فيه كل من إسرائيل وتركيا الآن وعلاقتهما مع مكونات المشهد السوري، ورؤيتهما إلى الحلّ السياسي (كونفدرالية الطوائف والأعراق – الاسرائيليّة)، (مركزيّة الأكثريّة السنيّة – التركيّة)، أو الفوضى التي تمكّن تركيا من التوطّن تماماً في حلب، فيما إسرائيل وصلت فعليّاً إلى أبواب دمشق؟
الشرق الأوسط الجديد، الذي تتم صياغته الآن، سيكون، في جانب رئيس منه، حاصل تقاطع (جَدَل) العثمانيّة المتجددة مع المشروع الصهيوني الذي يتقدم بتسارع غير مسبوق. الجانب الآخر من الصياغة ستعبّر عنه النتيجة الأخيرة للصدام المباشر مع طهران، سلماً أو حرباً.
الأمريكيون المتواجدون على خط (الثروات) هناك: هم المشرفون النهائيون الذين يختمون المشهد.
-9–
8 كانون أول 2024 – دمشق: تم اكتمال وقوع انقلاب جيوسياسي دفع بالجمهوريّة الاسلاميّة الإيرانيّة خلفاً. بضع خطوات متبقية كي تعود نهائيّاً نحو الحدود الشاهنشاهيّة التي كانت قائمة عشيّة الثورة (1978).
هل تواجه الخمينيّة السياسيّة سؤال النهاية؟
من جانبها، تتعرّض روسيا لضغوط متزايدة قد تكلّفها الخروج من المياه الدافئة نهائيّاً، إن لم تتمكن من فرض نفسها في المشهد الجديد، وفي هذه الحالة ستعود إلى بحرها الأسود، أو سيشرد أسطولها في البحار والمحيطات قبل أن يجد مرفأً يستريح فيه.
إلى أي حدّ سينعكس هذا الواقع على مجريات حربها الوجوديّة مع أوكرانيا ومن خلفها الغرب؟
الكارثة الجيو سياسيّة الناتجة من تفكك الاتحاد السوفيتي، لن تكون الوحيدة التي شهدها الرئيس فلاديمير بوتين. الانقلاب الجيوسياسي في دمشق هو الكارثة الثانية بالنسبة له.
بالمقابل، إسرائيل أنجزت في أيام قليلة ما عجزت عن إنجازه في عقود. أنهت حقبة الكفاح المسلح – المقاومة. تتهيأ لاستكمال خطتها في الضفة الغربيّة والقدس. فرضت على لبنان وضعاً تسعى لاستكماله بعد انقضاء الستين يوماً من قرار وقف إطلاق النار. دمّرت الجيش السوري وفق تعبير قادتها… تقف على أبواب دمشق.
تركيا، وضعت العثمانيّة الجديدة، ولأول مرة، على مسار التحقق، بعد أن كانت لوقت طويل (نستالوجيا سياسيّة) مدعاة للتعجّب. تركيا في الشمال، على أبواب حلب، صور رئيسها وعلمها في كل مكان!… رئيسها الذي يستعد للتوجه نحو دمشق للصلاة في الجامع الأموي، كما وعد منذ عقد مضى. سيأتي ويصلي ويلّوح لأبناء الحجاز والرياض وأخواتها الخليجيّات، والقاهرة وأخواتها المغربيات بـ (الخلافة) التي لا تزال ملك السلطنة. هو قال منذ مؤتمر حزبه “العدالة والتنميّة” في العام 2009، أنّه سيمزق اتفاقيّة لوزان في الذكرى المئويّة الأولى لها، وها هو يفعل ويمزق أوراقها السّوريّة!!
الولايات المتحدة، تشكّل الغطاء التام لكل هذه المتغيرات. الأهداف الموجودة والمرتبة في الخطط الجيوسياسيّة المتعلقة بالطرق والممرات ومجالات النفوذ وخرائط الثروات ستظهر تباعاً بعد إنجاز الترتيبات السياسيّة التي ستكرّس ذلك الكائن القادم “الشرق الأوسط الجديد”. الكائن الذي يسعى نحو الاستقرار مع سيطرة “الأكثريات” الطائفيّة على دوله ومكوناته.
-10-
لكن، ماذا يفعل السّوريون في الشام؟
السّوريون في الشام الآن، في لحظة استثنائيّة غير مسبوقة في تاريخهم المعاصر.
يقفون أمام مشهد مركّب من صورتين:
ألف – الصورة الأماميّة، صافية واضحة نقيّة. تلك التي يرتسم فيها ذلك السقوط المدوّي لنظام أقام في واقعهم وحكم حياتهم لأكثر من 60 عاماً، وهيمن على مخيلتهم وكاد أن يقنعهم أنه أبدي إلى آخر الدهور!!
هم لا يحتفلون في الساحات فرحاً وحسب، بل يحاولون التيقّن من أنَّ النظام الذي كانوا فيه قد سقط فعلاً؟ الاحتفالات هنا، بوصفها عامة، تأتي كتعبير عن إنجاز قطيعة نهائيّة معه. لا ينظرون إليه بالقطعة، أين أخطأ وأين أصاب وماذا فعل؟ اللحظة ملتهبّة والوقت الآن لا يسمح بهذا التجرّد العلمي الناشف! وليسوا مؤرّخين ليعددوا إنجازات تعود له، أو نواقص ومثالب واكبت مسيرته، حيث السقوط الهائل له ترك ركاماً كبيراً أحاله إلى جثّة هامدة غير قابلة للتشريح، فاتجهوا لدفنها بما لها وفيها وعليها.
شوقهم للخروج من تحت تلك القوقعة الثقيلة التي يمثّلها النظام السياسي… شوقهم لإبداء آرائهم بصوت عالٍ… شوقهم لامتلاك الحريات السياسيّة… شوقهم للمخالفة… مللهم من النسخة الموحدة والتطابق المقيت… كل هذا الشوق ومعانيه يدفعهم لتمديد إقامتهم أمام هذا الصورة المرتسمة أمامهم.
باء – الصورة الخلفيّة، ضبابيّة، متناوبة في وضوحها والتباس معطياتها وتشكيلها. وإذ يحدّق السّوريون في صورة السقوط المدوّي لا يرفعون أعينهم ليروا الآفاق إلّا للحظات قليلة، يرفعون أعينهم ليروا صورة بمعطيات غامضة أحياناً ومتناقضة في أحيان أخرى، ولكنها كلها غير نهائيّة بالنسبة لهم، لا زال الوقت مبكراً لحسم صورة المستقبل الآتي، الأحلام كثيرة وكبيرة وربما مثاليّة لن يكون لها أية مرتسمات في الواقع.
ماذا يعني هذا الكلام؟
الحامل العسكري الذي دخل المدن الكبرى وصولاً إلى العاصمة دمشق، هو إتلاف تنظيمات متعددة تحت مسمّى “هيئة تحرير الشام”. الصورة العامة النمطيّة الراسخة عن هذه التنظيمات أنها سلفيّة، متطرفة، إقصائيّة، واحديّة، مصنّفة في خانة المنظمات الارهابيّة. نشأت في أغلبها وتأسست في سياق منظومة الإسلام الجهادي الذي تشكّل منظمة القاعدة التنظيم – الأم بالنسبة له، فيما يشكل تنظيم الإخوان المسلمين الإطار المرجعي الفكري والمؤسساتي المتصل بالرؤية إلى النظام الإسلامي للدولة وشؤونها. هذه التنظيمات هي من كانت في مواجهة الجيش السّوري على مدى الأعوام الماضية.
الآن، مع تقلّد هيئة تحرير الشام موقع السلطة المرجعيّة البديل عن سلطة منتهية، بدت التعبيرات الأولى الصادرة عنها مخالفة في أغلبها للصورة النمطيّة الراسخة في وعي الغالبيّة العظمى من السوريين؟!
لكن، ما هي التعبيرات الأولى للسلطة الجديدة؟
أولاً- جاء اللقاء بين التنظيمات المسلحة – هيئة تحرير الشام، ومجتمع المدن التي دخلوا إليها، من طبيعة لا صداميّة، بل على العكس، اتسم بمقدار كبير من الليونة التي جعلت هذا المجتمع مسترخيّاً إلى نفسه، لا يشعر بأية نتوءات ناتجة عن جسم مسلح ويركن إلى مرجعيّة جهاديّة، نتوءات من شأنها أن تشكّل جبهات صدام أولى. الوضع بدا في غاية “المثاليّة”، بدا كمسيرة “غاندية – نسبة للمهاتما غاندي” أكثر من كونها “فتحاً مبيناً” بقيادة “أمير” يتجه لرفع راية الإمارة الإسلاميّة على أعلى جبل قاسيون!
بطبيعة الحال، التعبير السائد عن هذا اللقاء اللين الناعم غير الصدامي، هو أنه بمثابة “استلام وتسليم”، وفي ذلك مأثرة يجب ألّا تغيب عن وعي السوريين للجيش، الذي نفّذ أمراً بعدم المواجهة والقتال. ومهما كانت الدوافع التي أدت إلى إصدار ذلك الأمر، يبقى أنَّه جنّب المجتمع السوري المزيد من المذابح الأهليّة، وساهم إلى حدٍّ كبير جداً في نسف الصورة النمطيّة عن التنظيمات المسلحة التي ظلّ يقاتلها وفي مواجهتها من بداية نشوء الأحداث قبل 13 عاماً.
ثانياً- استكمالاً، للحظة “اللقاء المثاليّة”، لم تُشهر السلطة الجديدة إلى الآن، رؤيتها إلى المجتمع وشؤونه. الصورة المُسبقة عنها تفترض أنَّ لائحة بالممنوعات والمنهيات سيتم إعلانها فوراً مع لائحة بالمطلوبات والواجبات. هذا كله لم يحصل. السلطة الجديدة هنا، اتخذت موقفاً سلبيّاً أو محايداً ومراقباً لما عليه المجتمع. تركته كما هو… تركته مسترخٍ إلى “سلامه الداخلي”. التفاصيل التي تنشغل بها عادة مثل هذه التنظيمات مثل: لباس المرأة، شرب الخمر، الاختلاط… وكل ما له علاقة بثنائية الحلال والحرام المستولدة من مبدأ تطبيق الشريعة… تفاصيل لا يبدو أنّها، إلى الآن، بارزة في أداء السلطة الجديدة.
هذا كله وما يقع تحته، يمكن تصنيفه تحت عنوان: ” فيما لا تفعله السلطة الجديدة”.
ثالثاً- الامتحان الأهم، المتعلق بالحقل السياسي للسلطة، لم يحصل إلى الآن، باستثناء تشكيل حكومة مؤقتة تنتهي صلاحياتها في آذار القادم. السلطة بهذا المعنى لا زالت في الحد الأدنى من الأداء السياسي. من المؤكد أنَّ المكونات السياسيّة من الأحزاب والتجمعات والشخصيّات المستقلة ستعود إلى المشهد السياسي قريباً، ومن المؤكد أنَّ طبيعة الحقل السياسي حافلة بالعناوين غير القابلة للإجماع عليها.
هل سيكون الحقل السياسي، المتصل بالرؤية إلى الدولة، وخصوصاً دستور الدولة العتيدة، وسياستها العامة وطبيعة نظامها، وموقعها الإقليمي والعالمي، ورؤيتها إلى الصراع مع إسرائيل ….؟ وكل ما له علاقة بذلك كله… هل يكون المجال الذي سيغيّر “اللحظة المثاليّة” الأولى إلى لحظة كشف التناقضات والخلافات في الرؤى التفصيليّة والاستراتيجيّة؟ وهل ستتمكن السلطة الجديدة من إنتاج نظام دولتي قادر على تنظيم هذه التناقضات والتباينات، أم ستنزلق نحو استبداد متجدد؟
هذه الصورة الخلفيّة، تبدو للسوريين في الشام الآن ضبابيّة، متناوبة في وضوحها والتباسها.
ما هو واضح الآن: إنَّ السّوريين في الشام لا زالوا أسرى الصورة الأماميّة، يكررون مشهد السقوط المدوّي للنظام السياسي القديم، مع تناوب للصورة الخلفيّة التي إلى الآن لم تتقدم لتشغل عقلهم بوصفها الصورة التي سيرتسم فيها مستقبلهم.
-11-
خارج هذا المشهد، ثمة أحداث كبرى شديدة الخطورة، ومن طبيعة مصيريّة حاسمة، لا تُرى في الصورة الأماميّة، ولا في الصورة الخلفيّة، أحداث قد تضع تاريخ سوريا برمته على مسار جديد ومختلف. التقدم الإسرائيلي في الجنوب والتركي في الشمال. حركتان كبريتان تغيران الحالة الجيوسياسيّة في المنطقة وتتقدمان في سباق تنافسي للسيطرة على الشام.
لا يبدو أنَّ السوريين يعيرون انتباههم إلى هذين الخطرين، لا يبدو أنهم يتحسسون درجة الخطر المطبق عليهم كفكي كماشة.
من ثلاثينيّات القرن العشرين، قَرَن أنطون سعادة الخطر الصهيوني بالخطر التركي، وواظب على قرع غلاف الوعي السوري، الذي عانده مستبعداً خطر الشمال، ومتعاملاً مع خطر الجنوب على النحو الذي أدى إلى هذا المشهد الذي نراه اليوم.
غياب هذا الخطر على جسامته، وإقصائه بعيداً خارج المشهد وصورتيه، يعني أنَّ الوعي السوري بالأخطار التي تهدد وجوده، متراجع عن ذاته إلى درجة متدنيّة وغير مسبوقة!
-12-
سواء، أكانت الأخبار التي تشير إلى أنَّ الروس نبهوا بشار الأسد إلى أنَّ إسرائيل ستقوم بتدمير الجيش… أكانت صحيحة أو كاذبة، يبقى أنَّ أمر حلّ الجسم البشري للجيش هو جريمة تاريخيّة غير مسبوقة.
بعد حلّ الجيش، قامت إسرائيل بتدمير البنية العسكريّة التسليحيّة والتحتيّة تماماً.
على هذا النحو، تم قتل الجيش السوري بعد أكثر من قرن على تأسيسه، وأكثر من قرن على استشهاد وزير دفاعه يوسف العظمة في ميسلون.
الدولة السوريّة العتيدة ستكون دون جيش إلى أجل غير معروف؟
متى يتم تأسيس جيش جديد، من سيؤسسه، برعاية وتمويل أية دولة، ما هي أسلحته، والأهم ما هي عقيدته؟
-13-
عندما يتقدم قائد “العثمانيّة الجديدة” نحو الجنوب مبتدئاً بحلب، سيجد أنَّ “العثمانيّة القديمة” لا تزال موجودة في وعي الكثير من السوريين.
بعضٌ ليس بقليل من السوريين لا زال عثمانيّاً.
صحيح أنَّ آخر جندي عثماني قد خرج من دمشق في أيلول 1918، ولكن العثمانيّة لم تخرج إلّا جزئيّاً. الوعي السوري لا زال في تكوينه بمرجعيات متضاربة ملتبسة مختلطة. ثمة رحلة طويلة كي ينقّي هذا الوعي ذاته ويصبح قوميّاً.
-14-
في كتابه الأخير، الصادر في أول العام 2024، بعنوان “هزيمة الغرب” يعيد المفكّر الفرنسي المعروف إيمانويل توود، هذه الهزيمة إلى تراجع دول الغرب عن وضعيّة ومعنى ” الدولة القوميّة”.
نحن لا زلنا سكّان الكيانات السياسيّة المشوّهة التي زادتها نتوءات الأنظمة السياسيّة التي حكمتها تشويهاً.
نحن في مرحلة ما قبل القوميّة. مهزومون سلفاً.
-15-
عدم الرؤية، ليس دائماً بسبب من سيادة الظلام، بل وفي مرات كثيرة، بسبب النور المبهر للحقيقة، لكن لا خيار… نور الحقيقة المبهر لا يمكن أن ينطفئ … الرؤية ستعود منتصرة مع اعتياد نور الحقيقة.
معركة الوعي مستمرة.
-16-
طوى السّوريون في الشام فصلاً طويلاً من تاريخهم، هل سيتمكنون من صياغة مدخل يثقون بأنه سيضعهم في الآفاق التي تُرى فيها سوريا: حرّة وأبيّة فعلاً؟
ليكونوا أحراراً ومن أمّة حرّة؟
————————————–
اقرأ لـ نزار سلّوم في الموضوع نفسه:
اللوح العاشر:انتصارٌ وهزيمة، انظر إلى برّ الشام… هل انتهت الحرب!
اللوح التاسع: الحلّ النهائي واستراتيجيّة الآلام الكبرى
اللوح الثامن: الحرب على لبنان… وما بعده؟
اللوح السابع: آلهة التكنولوجيا في خدمة أنبياء الكتاب.
اللوح السادس: حربٌ أخيرةٌ فاصلة…مَن يريدها؟
اللوح الخامس: اليوم التالي: إعادة إعمار “سطح القمر”؟
اللوح الرابع: فلسطين والعالم: “الغرب الأخير” عدونا… وأملنا!!
اللوح الثالث: تفكيك القنبلة الديمغرافيّة الفلسطينيّة
دراسة جيدة وعميقة في شرحها لما ستكون عليه سورية وضواحيها واعني بسورية الجمهورية وكذالك الامة واذا كانت واقعية لا تعني انها ليست تشاءومية وتدر علينا رشاش الاحباط
هذه المقالة لا تُعاير بكونها تشاؤوميّة أو تفاؤوليّة. هذه الطريقة بالمعايرة للإنشائيات وليس للنصوص الفكريّة التحليليّة
تحياتي
Me pergunto ao estão os pensadores, a elite, os intelectuais, o grande povo Sírio, estão todos adormecidos, estarão todos sedados? Aonde estão os partidos políticos.? Será que a Síria haverá de perecer? Será que os últimos 60 anos não deixaram vestígios? Eu não consigo acreditar que a Síria tenha sido apenas uma miragem
النخب السوريّة مشتتة، حالتها انعكاس لوضع سورية… أرجو أن تتكاتف الجهود الفكريّة في معركة الوعي.
خالص التقدير
مطالعة تاريخية ومستقبلية رائعة. تسلم الأيادي.
شكراً جزيلاً خالص التقدير
لقد تمَّ تجويع السوريين، وإخافتَهُم، ووضعهم تحت ضغط الحاجات اليوميّةِ الأساسية، بصورة الإسعاف والاستجداء والاستماتة.. لقد تمَّ التدمير المُمنهج لعقيدتهم الوطنية، ولإمكاناتهم النفسية والمعرفيّة.. وكانت النتيجة الحتمية لذلك.. زوال الكيان.
نحن الآن فقط على عتبة المحطة الأولى.
يعطيك العافية
الحرب الاقتصادية آزرتها مافيات الفساد.
تراجع الوعي الوطني إلى حدود غير مسبوقة
الكيان بالمعنى الاسترتيجي لا وجود له مستقلاً.
الخطر القادم كبير جداً