العالم الآن

ألواح غزّة

اللوح السابع: آلهة التكنولوجيا في خدمة أنبياء الكتاب.

-1-

يعود قرار إنجاز مجزرة البيجر -pager، في مرجعيته إلى مصدرين: أولهما ديني يتمثّل بتعاليم وتوصيات ومبادئ معروفة واضحة وصريحة مشروحة في التوراة، وثانيهما تكنولوجي يتمثل في ما توصلت إليه الصناعة التكنولوجيّة العالية الاسرائيليّة “هايتك” وما وضعته في خدمة الاستراتيجيّة العسكريّة وعقيدتها.

-2-

إنْ تجاوزنا معهد إسرائيل للتكنولوجيا “التخنيون” الذي تأسس نظريّاً من قبل “جمعية عزرا” اليهوديّة – الألمانيّة في العام 1912، ليبدأ أعماله في العام 1924، إنْ تجاوزنا هذه الواقعة باعتبار “التخنيون” تغلب عليه السمة الأكاديميّة الجامعيّة، يكون تأسيس معهد “هنرييتا سالد” في العام 1941 هو الواقعة التي تعتبر البداية الفعليّة لمسار رحلة مراكز الأبحاث العلميّة والتكنولوجيّة التي أسستها الجمعيات اليهوديّة العاملة في إطار المشروع الصهيوني ومن ثم تولت الدولة هذه المهمة وطورتها على نحو جعل من إسرائيل في طليعة دول العالم في هذا الحقل، بل إنها تتبوأ مركزاً مرافقاً لمركز الولايات المتحدة الأميركيّة التي بطبيعة الحال تتصدر صناعة التكنولوجيا العالية ومساراتها المتقدمة وتوظيفاتها المتزايدة وآفاقها غير المحدودة.

وادي السيليكون الأميركي الشهير في كاليفورنيا، ليس وحيداً، توأمه وادي السيليكون الإسرائيلي يمتد من حيفا إلى تل أبيب وصولاً للقدس. وصل مردوده من تصدير التكنولوجيا العالية في السنوات الماضية إلى 74 مليار دولار، أي يشغل خمس الاقتصاد الإسرائيلي. أعظم الشركات الأميركيّة مثل:IBM,AMAZON,MICROSOFT,INTEL,GOOGLE,FACEBOOK  موجودة فيه، إضافة للشركات الاسرائيليّة وتلك المتعددة الجنسيات (المعولمة) التي يفوق تعدادها 300 شركة.

وعي أهمية الأبحاث والتكنولوجيا العالية لدى النخبة اليهوديّة كما لدى قادة مشروعها السياسي، عميق ومرافق لنشوء المشروع الصهيوني في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وبسبب ذلك تعتبر التكنولوجيا العالية وتطبيقاتها ليس من مزايا إسرائيل وحسب، بل من الحقول الفائقة الخطورة لديها والتي ترقى إلى مرتبة العوامل المصيريّة الحاسمة.

-3-

ضربت الدول المتقدمة خصوصاً الغربيّة منها طوقاً من الحماية الشديدة حول حقل خاص من المعرفة اصطلح على تسميته بـ “العلوم المركزيّة”، التي منها بطبيعة الحال علوم الفيزياء النوويّة والبيولوجيا الحيوية وكل ما يتصل بدراسة الفضاء وصولاً إلى علوم الأدويّة، والأمراض المستعصيّة، والزراعة، وغيرها. ومن المؤكد أنَّ الحرب الخفيّة على استجلاب “العقول” تشكّل جزءً مهماً من هذه المسألة التي لا تحتمل أخطاء كبرى.

ورثت إسرائيل – الدولة، عن الجمعيات والمنظمات اليهوديّة العاملة في إطار المشروع الصهيوني، هذا “الوعي” بأهميّة ومصيريّة وخاصيّة “العلوم المركزيّة”، ولذلك وبسرعة قياسيّة وبعيد الإعلان عن قيامها، بدأ دافيد بن غوريون في تأسيس البرنامج النووي لتتمكن إسرائيل بسنوات قليلة من امتلاك القنبلة النوويّة والتوسّع في علوم الفيزياء النوويّة، وبطبيعة الحال بمساعدة علماء يهود منهم صنّاع القنبلة النوويّة الأميركيّة وأخصّهم: اوبنهايمر. وبالمقابل تضع على مدار الساعة تحت منظارها الفاحص كل الدول المحيطة بها، حيث تراقب اقترابها من هذه العلوم وتعمل على نحو حاسم على إبقائها بعيدة عنها. الأمثلة كثيرة على قيام إسرائيل بمساعدة الولايات المتحدة بعمليات تخدم هذا الهدف، ليس أولها ضرب المفاعل النووي العراقي – مفاعل تموز – (تم تدميره في 7 حزيران 1981)، وليس آخرها الاستيلاء على الأرشيف النووي الإيراني (2018)، واغتيال لوائح طويلة تضم أسماء علماء من العراق والشام وإيران. ” الجمهورية العربية السوريّة كمثال، خسرت نخبتها العلميّة اغتيالاً في مناسبتين: أحداث 1980، وأحداث 2011″.

الآن، ساد اعتقاد ساذج، أنَّ الثورة الرقميّة التي وصلت إلى آخر كوخ في العالم، وبكونها أنتجت خاصيّة “السيولة” التي منها سيولة المعلومات، من شأنها أن تفكّ الحصار عن “العلوم المركزيّة” وتوفر فرصاً متكافئة لمختلف دول العالم ومجتمعاتها.

بطبيعة الحال، ليس الأمر على هذا النحو، حيث تشكّل “التكنولوجيا العالية” المجال الحاسم في استراتيجيات السيطرة والتفوق، ليس فقط بطبيعتها، بل وبالتسارع المذهل الذي تتجاوز فيه نفسها. يعبّر الرئيس فلاديمير بوتين عن هذا الأمر قائلاً: من يمتلك الذكاء الاصطناعي سيسيطر على العالم.

وادي السيليكون الإسرائيلي هو جزء رئيس من عالم “التكنولوجيا العالية”، فيما المجتمعات والدول المحيطة بإسرائيل تحاول الاستفادة من “سيولة المعلومات” المتاحة التي بكل حالاتها لن تمكنها من الانتقال من خانة الاستهلاك إلى خانة الإنتاج والابتكار والتصنيع والدخول إلى ما وراء أسوار “العلوم المركزيّة”.

-4-

في قراءة طبيعة الصراع مع إسرائيل، هل غمرتنا “سيولة المعلومات” وأوهمتنا بأننا تقدمنا أشواطاً إلى الأمام، فيما لم ننتبه ولم نتمكن من تقدير ما يجري وراء “أسوار الحماية” من عمليات متسارعة واستثنائيّة جعلت إسرائيل في موقع معرفي غير منظور بعد من منصتنا وواقعنا؟

هل أوهمتنا “سيولة المعلومات” أننا بصدد الوصول إلى مرتبة متكافئة بأدوات الصراع مع إسرائيل “الصواريخ، المسيرات…”؟

دون أدنى شكّ، ثمّة وعي ناقص بالتفوق التكنولوجي الإسرائيلي وما يعنيه.

-5-

مجزرة البيجر، مع عمليات الاغتيال الأخرى، في غزّة ولبنان، حدثت وأنجزت – دون الحديث عن الاختراقات الأمنيّة – لسببين متكافلين: تقدم التطبيقات العسكريّة الاسرائيليّة للتكنولوجيا العالية، وعدم وعي هذا التقدم والعمل على تفادي مفاعيله من قبل قوى المقاومة الإسلاميّة.

-6-

في العام 1923، قام صاحب النظريّة النسبيّة ألبرت آنشتاين بزيارة فلسطين، وعمد إلى زرع شجرة النخيل الأولى مقابل معهد إسرائيل للتكنولوجيا، في واقعة رمزيّة على استثنائيّة المعرفة، التي بالأصل هي من “ممتلكات الآلهة”. ملاّك شركات وادي السيليكون في الولايات المتحدة يعتبرون أنفسهم خارج إطار “الشروط البشريّة”، ولذلك يعوّل ايلون ماسك على إنتاج الشريحة الرقميّة التي تؤمّن له الخروج على هذه الشروط. وبطبيعة الحال تلتقي عقيدة “شعب الله المختار” وتتماهى مع القدرة الفائقة للتكنولوجيا العالية، فتبدو “آلهة التكنولوجيا” في خدمة أنبياء “شعب الله المختار”.

أثناء زيارة آنشتاين لفلسطين في العام 1923، كنّا لم نزل نمارس فعل الجراحات الطائفيّة والمذهبيّة… كنا نؤسس لهذا الحاضر الذي نحن فيه.

-7-

جمعية عزرا أخذت اسمها من عزرا الكاهن – الكاتب الذي كان موظّفاً في البلاط الفارسي، بعيد السبي البابلي – حسب السرد التوراتي – والذي انتفض على اختلاط اليهود بغيرهم من الشعوب، وأسس لمدرسة النقاء العرقي، التي اعتمدها جابوتنسكي معلم بنيامين نتنياهو وملهمه. (سفر عزرا).

الاختراق الأمني الغامض الذي ساعد إسرائيل على إنجاز عملياتها، والذي يكثر الحديث عنه قد يكون بدأ هناك في البلاط الفارسي، خصوصاً أن إسرائيل تقوم بعمليات أمنية متواصلة في إيران ودون انقطاع، حتى من بدايات الثورة الخمينيّة. ثمة عمق استخباراتي لها منذ العهد البهلوي الذي توأم ما بين الموساد الإسرائيلي والسافاك الإيراني.

هل دخلت إسرائيل على حصون حزب الله المغلقة وذات السمعة الأسطورية من (الشريحة التشاركيّة) مع إيران؟

-8-

مجزرة البيجر، هي رسالة واضحة عن طبيعة حروب المستقبل. السيولة المعرفيّة التي غمرتنا، وصلتنا في “صندوق صغير – جهاز”، مفتاح تحويله إلى باب جهنم بيد “آلهة التكنولوجيا” اللذين تسمح عقيدتهم بالضغط عليه عندما يشاؤون.

-9-

غزوة – ذات – البيجر، أو البيجر – المقدّس، هي عبارات مفتاحيّة صدرت عن جهات طائفيّة وسياسيّة مؤازرة لأنبياء الكتاب وتأويلات الفقهاء، ومتشفيّة ومحتفيّة بالخسائر التي حلت بحزب الله وبيئته.

عبارات مفتاحيّة، تؤكد أنَّ السّيد حسن نصر الله لو انتصر غداً على إسرائيل ودخل المسجد الأقصى في القدس ليقيم الصلاة، سيجد الخنجر نفسه الذي قُتل به عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب بانتظاره.

بلى، ذلك الخنجر مقيم باستمرار ومصان بأعلى درجات الحرص، ضمن “أسوار الحماية” الكتيمة للحقد الأسود.

-10-

فشل المشروع القومي، واستتباعاً تفكك الكيانات السيّاسيّة (الدول)، وتذرير المجتمع إلى أضيق دوائر… هو السبب في هذا الواقع الذي نحن فيه.

-11-

المجتمع معرفة والمعرفة قوّة. مفتاح عقيدة أنطون سعاده.

——————————–

اقرأ لـ نزار سلّوم في الموضوع نفسه:

اللوح السادس: حربٌ أخيرةٌ فاصلة…مَن يريدها؟

اللوح الخامس: اليوم التالي: إعادة إعمار “سطح القمر”؟

اللوح الرابع: فلسطين والعالم: “الغرب الأخير” عدونا… وأملنا!!

اللوح الثالث: تفكيك القنبلة الديمغرافيّة الفلسطينيّة

اللوح الثاني: اكتشافُ إسرائيل؟

اللوح الأول: خوارزميّات العنف

الطوفان / الحريق: الصدمة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق