هل يمكننا القول، بعد انقضاء عام على قيام حركة حماس بعملية “طوفان الأقصى”: إننا تغيّرنا؟
بلى، نحن في زمن استثنائي وعلى شرفة نرى منها: ماضياً انقضى، وحاضراً تتم صياغته وتسويته، ومستقبلاً نتلقى رسائل متتابعة عن طبيعته وفحواه.
الواقع الذي نحن فيه ضُرب وتخلخل هيكله، ضُرب في وجوده الفيزيائي ولا يزال، كما في المفاهيم الحاضرة فيه والأفكار السائدة التي كانت تفترض لنفسها استمراراً غير مُقيداً بأي حدث يقع ومهما كانت طبيعته.
تغيّرات لم نكن نتوقع حدوثها حصلت وأمست واقعاً، وأحداث لم نكن نظن للحظة أنّها يمكن أن تُنجز بالسهولة التي تمت فيها… أحداث أمست بدورها واقعاً. أبواب التغيرات الجيوسياسيّة مشرعة على مصاريعها وحتى آخر مشهد مُتخيل فيها الذي يصل إلى حرب اقليميّة وربما عالمية ثالثة مُصغّرة أو مُكبّرة. مشاريع تُفصح عن نفسها وأخرى تطوي أوراقها المجهضة والفاشلة، أفكار كثيرة وعقائد وإيديولوجيات تبحث عن مصيرها وإنقاذ ذاتها، حتى لو توسّلت الأوهام. حمولات تاريخيّة تتصل بسرديّات الجماعات الدينيّة تلقي بثقلها في الميدان. ضبابٌ كثيف ناتج من التسارع الهائل للأحداث التي وقعت في النصف الثاني من شهر أيلول 2024 على أرض لبنان بالدرجة الأولى. خلط ٌ للأوهام مع الحقائق، خلطٌ يعمّق من الإحساس بانعدام الرؤية.
هذه محاولة لإعادة ترتيب المشهد، لتفكيك الاختلاطات، لتخفيف كثافة الضباب الحائل دون صفاء الرؤية.
-1-
الحدث – المؤسس لهذه التغيرات، هو دون شكّ “طوفان الأقصى” الذي نفّذته حركة حماس يوم 7 تشرين أول 2023.
في تجاوز لحساب الربح والخسارة الذي يتكرر الآن في مقاربات هذا الحدث، والذي يثير تناقضات ويؤدي إلى استقطابات حادّة بين مختلف المكونات السياسيّة والعامة، لا بدَّ من إعادة تفحّص طبيعة هذا الحدث من منظار التساؤل التالي:
هل “طوفان الأقصى” حدثٌ مدرجٌ في إطار استراتيجي جاهز ومُعد سلفاً من حركة حماس أو “محور الممانعة”؟ أو أنّه حدثٌ مفردٌ تكتيكي الوظيفة غير مشمول باستراتيجيّة واضحة وقادرة على تقديم الرؤى المتلاحقة للتعاطي مع التغيّرات التي يتوقع أن تحدث جرّاء هذا الطوفان؟
ساعات قليلة أعقبت الحدث، كانت كافية لرؤيّة ذلك المسار الذي فتحه الطوفان والذي مصير إيقافه أو استمراره تتحكم به على نحو شبه تام: إسرائيل والولايات المتحدة الأميركيّة.
بدأت حرب إسرائيل لإبادة غزّة مباشرة، وقبل أن يبادر أي طرف من محور الممانعة بأي تحرك يشي بوجود بعد استراتيجي لحدث 7 تشرين أول. كان السيد حسن نصرالله واضحاً عندما قال إنَّ حزب الله لم يكن على علم بهذا الحدث إطلاقاً، وهو قرر فتح جبهة جنوب لبنان كجبهة إسناد من شأنها تخفيف الضغط الإسرائيلي على غزّة، ما يعني أنَّ السيد حسن نصرالله قرأ الحدث بوظيفته التكتيكيّة التي عمّت وشاعت لاحقاً ومفادها أنَّ “طوفان الأقصى” يستهدف وضع حد لتجاهل القضيّة الفلسطينيّة باستهداف اجهاض عمليات “التطبيع الإسرائيلي – العربي” الجارية بتسارع كاد أن يصل إلى عقد اتفاقيّة سعوديّة – اسرائيليّة؟
كل أطراف “محور الممانعة” رأت في “طوفان الأقصى” تلك الوظيفة التكتيكيّة – وربما إيران تتفرّد برؤية جانب إضافي لهذه الوظيفة يتعلق بها مباشرة – فصمم كل طرف مساهمته اللاحقة انطلاقاً من هذه الرؤيّة:
إيران كمرجع سياسي ولوجستي داعم في إطار ما هو مألوف وعادي ومتوقع. لن يتغيّر أسلوبها إلاَّ مع التحرّش الإسرائيلي المباشر بها (قصف قنصليتها في دمشق – مقتل اسماعيل هنيّة في طهران…)، وقد تصاعد هذا التغيّر مع قيامها بتنفيذ ضربة صاروخيّة على قواعد عسكريّة إسرائيليّة، بعد اغتيال السيد حسن نصر الله ما أنتج مُناخاً جاهزاً للانفجار الإقليمي في كل لحظة.
دمشق، في إطار أداء عادي وخارج عن أية وضعيّة خاصة واستثنائّية، سوى كونها تتلقى الضربات الجويّة الاسرائيليّة على نحو أصبح من المشاهد المألوفة. ضربات تستهدف أهدافاً “إيرانيّة” أو “إيرانيّة – سوريّة – لبنانيّة (حزب الله)” مشتركة.
حزب الله تفرّد بفتح جبهة الجنوب كـ “واجب شرعي وأخلاقي”، ولكن ضمن منهجيّة ضبطها في إطار “قواعد الاشتباك” القديمة المؤسسة على نتائج حرب تموز 2006.
اليمن، مساهمته الرئيسة لا تتمثل بالصواريخ التي يرسلها بين حين وآخر تجاه إسرائيل، بل بتعطيل الملاحة في البحر الأحمر، وهذه “المساهمة” لها طابع إشكالي فيما إن كان مردودها سلبيّاً على إسرائيل فعلاً أم على مصر التي انخفضت إيراداتها الماليّة من قناة السويس إلى أقل من الربع، في ظلّ ضغوط سياسيّة تمارس عليها للقبول بنتائج الإبادة وتهجير الغزّاويين؟
القوى العراقيّة التي توالي المقاومة والتي تساهم بإرسال الطائرات المسيرة نحو أهداف داخل الأراضي المحتلة بين فينة وأخرى.
بالمقابل، وعلى عكس الوظيفيّة – التكتيكيّة التي وسمت رؤية وأداء أطراف “محور الممانعة”، ومن اللحظات الأولى للحدث، حددت إسرائيل طبيعة مواجهتها وردة فعلها عليه بكونها: استراتيجيّة، بل فوق – استراتيجيّة: مصيريّة – وجوديّة.
-2-
انتهت الوظيفة التكتيكيّة لـ “طوفان الأقصى” مساء اليوم نفسه الذي تم فيه، أي مساء 7 تشرين أول 2023. وأصبحت حركة حماس اعتباراً من اليوم التالي 8 تشرين أول، أمام هدف وحيد: وقف إطلاق النار والعودة إلى الوضع السابق للحدث. واصطفت قوى محور الممانعة وراء حماس للوصول إلى هذا الهدف.
بالمقابل، أعلنت إسرائيل مباشرة أنها في مواجهة وجوديّة، وهي لذلك فتحت كتابين:
1- كتابها المؤسس والضامن لوجود الجماعة اليهودية في التاريخ: التوراة.
2- كتاب الصهيونيّة ومشروعها المعاصر.
على هذا النحو، بدأت إسرائيل عملية إبادة غزّة، فيما أطراف محور الممانعة يطالبونها بالتوقف، أسوة بالمناشدات الاقليميّة العربيّة والدوليّة.
ارتسم المشهد في اليوم التالي للطوفان واضعاً إسرائيل على منصّة رؤية فوق – استراتيجيّة، مقابل محور أنهى الوظيفة التكتيكيّة لعمله، فبدا بغياب استراتيجيّة واضحة تميزه دون هدف، فاتخذ موقع المقاوم، باستثناء البعد التكتيكي المتجدد والناتج من قراءة حزب الله والمتمثّل بمساندة حركة حماس ضمن شروط القواعد القديمة، وهي رؤية سيدفع ثمن محدوديتها غالياً في وقت لاحق.
من اليوم التالي للحدث – المؤسس، بدأ عدم التوازن على مستوى الرؤية وفصول القراءة للذات وللآخر. وهذا الـ “عدم التوازن” سيؤدي لاحقاً إلى تطورات غير واردة في حساب أطراف محور الممانعة. تطورات حاسمة ستقفل حقبة وتفتح أخرى جديدة.
-3-
أبادت إسرائيل غزّة عمرانيّاً وسكّانيّاً خلال أقل من عام. حصل الأمر على مرأى العالم أجمع، نحن رأينا الإبادة، والعالم العربي رآها، والعالم الإسلامي رآها، والعالم الغربي رآها، والعالم الشرقي رآها.
اعتمدت إسرائيل ما نسميه “استراتيجيّة الكيبوردkeyboard-“، فغزّة ليست سوى “تطبيق-application”. مع غزّة تم تمرين العالم أجمع على اعتياد رؤية الإبادة تستكمل فصولها. الكيبورد في خدمة الكتاب، كتاب إسرائيل المفتوح على مختلف فصوله، المفتوح حتى أقصاه.
يكرر أطراف محور المقاومة مع غيرهم خطأً جسيماً في قراءة إسرائيل خصوصاً عندما يندلع القتال معها:
1- في منهجيّة الشخصَنَة: حيث التركيز كان دائماً على شخصيّة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينيّة. لوهلةٍ، ظننا أنَّ وظيفة هذه الحرب تتمثل بإسقاط نتنياهو وحكومته!! اعتماداً على سرديّة رائجة تقول إنَّ حكومة نتنياهو تعمل على استمرار الحرب التي بدأتها على غزّة خوفاً من محاسبتها وإسقاطها مع نهايتها!
ديناميّة النظام السياسي الإسرائيلي التي قد تُسقط حكومة نتنياهو كما تُسقط غيرها، هي ميزة تعود بمردودها للجانب الإسرائيلي وليس لنا؟!!!
الشخصَنَة تقود إلى الاحتفاء بنصرٍ وهمي. (عندما سقط جورج بوش الأب في انتخابات الرئاسة الأميركيّة في العام 1992 أمام بيل كلينتون، خرج الرئيس صدام حسين من بوابة القصر الجمهوري وهو يحمل بندقية حربيّة ليطلق منها رشقات متعددة احتفاءً بسقوط غريمه…!!)
إسرائيل بيمينيها ويساريها ووسطييها تدين إلى كتاب واحد يفتحونه جميعهم ودون استثناء، ويتبعون مشروعاً واحداً هو المشروع الصهيوني، يعملون جميعهم ودون استثناء لتحقيقه كاملاً غير منقوص أو معدّل.
2- منذ إعلانها كدولة في 15 أيار 1948، بدأنا ننظر إلى إسرائيل كمخلوق لقيط، وهذا صحيح من وجهة علم الاجتماع ونواميسه، ولكن هذه الرؤية، إن لم تأت في سياق معاينة تاريخيّة، ستكون بمثابة اختزال مُضلل، لماذا؟
الدولة الاسرائيليّة المولودة في العام 1948، هي الوجه الراهن للمشروع الصهيوني المؤسس رسميّاً في العام 1897، والذي يعود في اختلاجاته الأولى إلى ما يسمى بـ “المسألة اليهوديّة” -وهو مصطلح بدأ التداول به في منتصف القرن الثامن عشر، قرابة العام 1750 في أوروبا – وبدأ يتبلور مع الجمعيات اليهوديّة المتكاثرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والتي بدأت تضع برامج الاستيطان في فلسطين ولتنفّذها عمليّاً ابتداءً من العام 1878.
نحن لا نواجه دولة إسرائيل المعلن عنها في العام 1948، نحن نواجه المشروع الصهيوني الذي تمتد جذوره إلى أكثر من مئتي عام، والمتبلور عملاً وبرامج منذ أكثر من 150 سنة والمؤسس رسميّاً في مؤتمر بازل منذ128 سنة.
نحن لا نواجه دولة نختزل وصفها بكونها لقيطة، بل مشروعاً قديماً له مؤسسات متمّرسة بصياغة المنهجيّات والأهداف والوسائل وقراءة الاستراتيجيّات العالمية الكبرى والاستفادة القصوى منها.
هذا المشروع، هو من التقط الفرصة التاريخيّة التي أفضت إليها عمليات الحرب العالميّة الثانيّة (1939 – 1945)، ليعلن عن قيام دولة (إسرائيل).
المشروع لا زال مرجع الدولة، لا العكس.
إن خرجت الدولة منه، تتجه نحو نهايتها المحتومة فوراً. لا وجود لدولة إسرائيل دون المشروع الصهيوني.
نحن نواجه مشروعاً له سرديّة تاريخيّة، وتقاليد راسخة. نواجه مشروعاً ملتحفاً “العالم الغربي” الذي يقود العالم منذ أكثر من ثلاثة قرون.
نحن نواجه مشروعاً له كتاب ديني مرجعي تقرّ بـ “أبوّته” مؤسساتنا الدينيّة المحمديّة والمسيحيّة!!
نحن نواجه مشروعاً دخل في دورة حياة أقوى إمبراطوريّة محاربة في التاريخ: الولايات المتحدة الأميركيّة.
هو في دورة حياتها، في شرايينها وقلبها، وبالأخص في عقلها، بكل ما للكلمة من معنى.
المشروع الصهيوني، عمراً، أقدم من مختلف دولنا وكياناتنا، وأعمر من أكثر من ثلثي دول العالم.
بالطبع لا أتحدث هنا عن المجتمع، بل عن المؤسسات السياسيّة والمشاريع الاستراتيجيّة وتجربة الدولة المعاصرة المستولدة من رحم (سايكس – بيكو) ومسار هذه الدولة ومآلها خلال أكثر من قرن.
نحن نواجه هذا المشروع بالضبط، المتمثّل في جانبه الواقعي الآن بدولة إسرائيل.
لذلك اختُطفت فلسطين منّا، وارتُكبت المجازر بحقنا، وتمت إبادة غزّة الآن، ويُباد جنوب لبنان والضاحيّة الجنوبيّة لبيروت الآن، وربما غيرها في لبنان وغيره في الآتي من الأيام حيث تمتد الحرب وتتوسّع، إنْ استمرّ عنادنا في قراءة إسرائيل على هذا النحو الاختزالي.
البحث عن نقاط ضعف المشروع الصهيوني، مهمّة مصيريّة، وليست إنشاءً مرسلاً. في هذا البحث لا مكان للخطاب التعبوي.
-4-
في خلال أيام عشرة (من 17 إلى 27 أيلول)، أنجزت إسرائيل ما كان يبدو عليها صعباً أو ربما مستحيلاً إنجازه. ما بين هجوم البيجر الصاعق واغتيال السيد حسن نصرالله، بدت إسرائيل على منصّة مختلفة ومغايرة لتلك التي كانت عليها منذ تموز 2006.
أحداث الاغتيالات السابقة التي قامت بها إسرائيل وضربها لبعض المواقع العسكريّة التابعة لحزب الله (منصّات صواريخ، مخازن أسلحة…) كانت تشير إلى اختراقات أمنيّة ما (أقرّ السيد حسن نصرالله في آخر خطاب له بوجود هذا الخرق)، لكن أحداث الأيام العشرة أعطت انطباعاً مباشراً أن حزب الله ليس مخترقاً وحسب، بل هو مكشوف أمنياً على نحو مذهل!!
وعزز من هذا التصور العمليات اللاحقة والمستمرة التي ساحتها تمتد من البوكمال شرقاً إلى البقاع الشمالي إلى الضاحية والجنوب، التي تطاول في أهدافها قادة عسكريين وسياسيين من حزب الله آخرهم السيد هاشم صفي الدين، والسيد وفيق صفا.
الحرب على لبنان الآن تجري بأسلوب مشابه لما جرت فيه في غزّة وتستهدف: ضرب البنيّة السكانيّة قتلاً وتهجيراً، وتدمير البيئة العمرانيّة وجعل المكان غير صالح للحياة. في قرى الجنوب كما في الضاحية الجنوبيّة لبيروت.
مرة جديدة تستخدم إسرائيل (استراتيجيّة الكيبورد-keyboard) وتحوّل لبنان إلى (تطبيق-application).
البحث عن الأسباب الأمنيّة والتقنيّة التي أدت إلى تمكين إسرائيل من إنجاز أهداف من عيار ثقيل وبتسارع غير مسبوق، سيتواصل حتماً وسيتم الوصول إلى سرديّات خاصة به (السرديّة الأولى السائدة الآن تشير إلى أنَّ الاختراق الأمني الإسرائيلي حدث في الجهة الإيرانيّة ومنها وصل إلى حزب الله)، ولكن مهما كانت هذه الأخطاء والعثرات الأمنيّة والتقنيّة فإنّها بالتأكيد ليست هي الأساس الذي يشكّل قاعدة قراءة هذه الأحداث المتواصلة.
ثمة خطأ كبير ما؟
أين الخطأ؟
برأينا، وقع حزب الله، بُعيد نهاية حرب تموز 2006، في الخطأ نفسه الذي وقعت فيه دمشق في اليوم التالي لانسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان مطلع صيف العام 2000. يتمثل الخطأ في فحوى قراءة الحدث – الانتصار.
اعتبر حزب الله أنَّ حرب تموز أدت إلى انتصار كبير أرسى توازناً في الردع مع إسرائيل، من الصعوبة عليها تجاوزه للعودة إلى وضعيّة التفوق التام. نظر حزب الله إلى انتصار تموز باعتباره وضع أساساً جديداً للصراع لا يمكن لإسرائيل العودة إلى ما قبله. ورغم الخروقات الكثيرة التي قامت بها إسرائيل وخصوصاً التي يقوم بها سلاح الجو، إلاَّ أنها لم تؤثّر بشكل حاسم وقادر على تغيير وضعيّة “الستاتيكو” التي ميزت جبهة الجنوب على مدى 17 عاماً، وضعيّة رسّخت هذه القراءة التي تفضي إلى صورة لا تُرى إسرائيل فيها إلاَّ ضمن الكادر الذي خرجت فيه من حرب تموز.
هكذا، بتثبيت صورة إسرائيل ضمن ذلك الكادر – الإطار، تجمّدت الرؤية إليها، فاستبعدت أن تكون قادرة على الخروج من الإطار، ولكنها كانت فعلاً خارجه.
لم يرَ حزب الله إسرائيل خارج إطار الصورة المرتسمة لها بعد حرب تموز طوال الـ 17 عاماً المنقضية، فتمكّنت من إعادة تحميل استراتيجيتها بأسلحة وعمليات ستفاجئ بها حزب الله عندما قررت نقل مركز معركتها إلى لبنان.
إسرائيل التي بدأت حربها على غزّة في 8 تشرين أول 2023، وحربها على لبنان في أيلول 2023، هي الخارجة عن إطار صورة تموز 2006. التمويه الذي مارسته خلال عام في جبهة المساندة مع حزب الله، نجح في تثبيت قراءته القديمة، القراءة التي تعثّرت وسقطت مع بداية الخروج الخاطف من إطار الصورة الذي قامت به إسرائيل في 17 أيلول مع هجوم البيجر الصاعق، وتكرر الأمر على نحو كبير مع اغتيال السيد حسن نصرالله.
الخطأ الكبير، يتمثّل مرة أخرى، في قراءة إسرائيل، في معاينتها، الخطأ نفسه كي يُصحح يفرض اعتماد منهجيّة قراءة إسرائيل على نحوٍ متواصل، لتجديد استراتيجيّات مواجهتها.
-5-
تحاول إسرائيل تطبيق المنهجيّة نفسها مع حزب الله، التي مارستها الولايات المتحدة مع حزب البعث، بعد احتلالها للعراق 2003.
المنهجيّة موجزة في مفردة “الاجتثاث”، أطلقتها الولايات المتحدة صريحة بعنوانها: اجتثاث البعث، فيما تحاول إسرائيل تطبيقها في لبنان دون أن تعنونها. وهي تقوم أساساً على إنتاج هلع وخوف وهستيريا عامة من “حزب الله”. وإذا كان هذا الجدار من الخوف وعدم الثقة موجوداً سلفاً عند أطراف عديدين في لبنان، فإن امتداده ليشمل حلفاء حزب الله وصولاً إلى “بيئته” هو الهدف الراهن الذي تعمل إسرائيل على إنجازه.
القاعدة الرئيسة لهذه المنهجيّة: عزل حزب الله عن لبنان، فـ “حزب الله” حالة لا لبنانيّة، هو شيء ولبنان شيء آخر، على هذا النحو تحاول إسرائيل إنتاج هذا التناقض القاتل.
وعلى ذلك يكون من مفردات هذه الاستراتيجيّة:
الطلب من السكان الابتعاد عن أي مكان أو شخص يشتبه بعلاقته مع حزب الله.
اعتبار كل نازح عضواً في حزب الله، أو مؤيداً له، وبالتالي هو خطر على من يقترب منه.
اعتبار كل سكان الجنوب وضاحية بيروت الجنوبية: بيئة حزب الله.
كل من يُرى بهذا المنظار، سيكون مشمولاً بعملية التدمير التام الذي يحيل الجنوب والضاحية إلى مكان غير صالح للحياة.
طبعاً، لا تجوز المقارنة بين بيئة البعث في العراق التي بدت رخوة، مع بيئة حزب الله الصلبة التي تتجاوز المكون السياسي في تشكيلها.
رغم ذلك، ظواهر استراتيجيّة الاجتثاث واضحة، كما مفاعيلها بدأت تظهر وتتمترس لدى أكثر من جماعة سياسيّة أو طائفيّة.
-6-
أبادت إسرائيل غزّة، عمرانيّاً وسكانيّاً، وتحاول استكمال إنجاز هذه الاستراتيجيّة في لبنان الآن.
تهجير سكان جنوب لبنان والضاحية الجنوبية، ليس تفصيلاً بسيطاً، بل هو الهدف الاستراتيجي للحرب الاسرائيليّة المستمرة على مجتمعنا.
تستهدف إسرائيل من تهجير (بيئة حزب الله) واقتلاعها من مدنها وقراها، مع تدمير هذه القرى والمدن تدميراً تاماً:
أولاً، إقامة (جدار الرماد)، الممتد من الحدود الراهنة وحتى نهر الليطاني. جدار الرماد هو تلك الأرض الخالية والمدمّرة التي تستهدف إسرائيل تأمينها الآن كفاصل مع لبنان. جدار الرماد هو استلهام توراتي من سدوم وعمورة.
ثانياً، ضرب هذه البيئة في مقومات حياتها، وإشغالها بالبحث عن هذه المقومات. والدفع بها للاصطدام ببيئات طائفيّة ومذهبيّة أخرى مستعدة وجاهزة للصدام خصوصاً مع شيوع ثقافة التخويف المتبادلة التي يتم ربطها بمصير هذه البيئات – الطوائف ووجودها وثقافتها.
بهذا المعنى يتم إعداد منصّة (الحرب الأهليّة – الطائفيّة)، التي احتمال اشتعالها يتزايد إذا تمكنت إسرائيل من تحقيق إنجازات ميدانيّة حاسمة ضد حزب الله.
غير أنَّ هذا التهجير، كما تهجير الفلسطينيين، كما الانزياحات السكانيّة الكبرى التي شهدها العراق والشام خلال العقدين الماضيين، يأخذ بعداً مصيرياً بكونه يهدم الهيكل المجتمعي، ويعيد توضيع مكوناته على نحوٍ غير مستقر، قلق، متوتر، فتفقد المجموعات السكانيّة علاقتها الراسخة مع المكان، وتصبح أكثر استعداداً للرحيل مجدداً أو إخلاء أمكنتها، أو الصدام مجدداً في حلقة من العنف لا يبدو في الأفق ما يشير إلى نهايتها.
فهم هذا المعنى، يرتبط بوعي أحد أهم نقاط ضعف المشروع الصهيوني المتمثلة ببنيته الاجتماعيّة القلقة والمتوترة والتي لا تحتمل الخسارة أو الهزيمة.
تسعى إسرائيل إلى إنتاج بيئات سكانيّة مجتمعية موازية لبيئتها بهذا المعنى، مع فارق أن فائض القوة الذي تملكه يؤمّن حماية لبيئتها، فيما تفترض أن فشل الدول المحيطة بها يضع بيئاتها السكانيّة أو مجتمعها في العراء التام.
-7-
تخوض إسرائيل هذه الحرب، بمنطق ومنهجيّة، الحرب الأخيرة. وهي لن تكون الأخيرة حتماً، ولكنها ستفضي إلى حالة جديدة تسم السنوات القادمة التي ربما قد تُقاس بالعقود، إلاّ إن حدثت تطورات أدت إلى حرب إقليميّة أو عالميّة.
التصورات والمشاريع الجيوسياسيّة المرتبطة بتسوية نتائج الحرب الراهنة ستظهر سريعاً، بأوجهها السياسيّة والاقتصاديّة، التزاحم الإقليمي والعالمي سيكون في أعلى درجاته للاستحواذ عليها. التغيّرات السكانيّة التي حصلت وتلك التي ستحصل، التغيّرات السياسيّة التي قد تصل إلى خرائط جديدة وعلاقات جديدة واتفاقات جديدة، كلها ستأتي في سياق الصراع على الثروات كما على السيطرة على الممرات والطرق الحيويّة ذات الطابع الاستراتيجي.
مشروع “الشرق الأوسط الجديد”، المتجدد بإيقاع توراتي، قد يدفع بالصراع نحو حرب إقليميّة واسعة سترتب نتائج لا يمكن التكهن بطبيعتها ومدى تأثيرها، ولكنها حتماً ستؤثّر في الكتل الجيوسياسيّة الكبرى المحيطة بنا: إيران، تركيا، الجزيرة العربيّة مع دول الخليج، مصر.
كما من شأن هذا المشروع الدفع بالصراع سريعاً ومباشرة نحو الوسط السوري، الذي سيشكّل إحدى الذروات الكبرى التي من شأن السيطرة عليها حسم المعركة إلى حد كبير. الأميركيون هناك، والإيرانيون أيضاً، والأتراك فضلاً عن الروس. المليشيات الوظيفيّة التي عملت ضد الدولة وحلفائها وخصوصاً منهم إيران وحزب الله، لا زالت تنتظر الأمر للعودة إلى القتال.
إن انتهت هذه الحرب، وفق الرؤية الأميركيّة – الاسرائيليّة، فهذا يعني تراجع المقاومة المسلحة خلفاً، وربما نهاية حقبتها التي بدأت مع الطلقة الأولى الفلسطينيّة في بداية العام 1965.
مجتمعنا من أقصاه في الغرب إلى أقصاه في الشرق، من غزّة وبيروت إلى بغداد مروراً بدمشق، سيكون أمام مواجهة جديدة، مواجهة على مستوى الذات أولاً، بعد أن فقد الفرصة على صياغة مقاومة قوميّة في مناسبتين، أولاها مع المقاومة الفلسطينيّة، والثانيّة مع المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة.
المواجهة ستعود إلى مربّع الوعي، الوعي بالذات، بالهويّة ومضمونها، بالشخصيّة التاريخيّة وخطّها الإبداعي الخلاّق القادر على صياغة مجتمعنا الراهن المفكك والمتضارب صياغة توحيديّة، حيث الحوامل المذهبية والطائفيّة لن تتمكن من رفع أثقال القوميّة فوق منكبيها، حتى ولو انتصرت في حربها المباشرة مع إسرائيل.
مجتمعنا سيكون، بعد نهاية هذه المعركة، ومهما كانت نتائجها، أمام امتحان تاريخي كبير ومصيري. السياقات المؤسسية التي حكمت مصيره من نهاية الحرب العالميّة الأولى، بحاجة إلى مراجعة ونقد. سرديّاته ومرجعيّاته الفكريّة والعقائديّة والسياسيّة وغيرها بحاجة إلى تصحيح وربما إلى تغيير جذري. من غير الطبيعي أن يظلّ مجتمعنا محكوماً بهذه الحركة الدائريّة للطوائف والمذاهب وحتى للحركات السياسيّة التي لم تخرج على منطق هذه الحركة وحكمها ومأساويتها.
علينا العودة إلى التساؤلات الوجوديّة الكبرى، ومنها يمكن أن نكسر هيمنة الحركة الدائريّة العبثية، كي نرى الآفاق القادمة.
-8-
المشروع الصهيوني، وفي سياق إنجاز نفسه وتحقيق رؤيته وأهدافه، لم يغيّر واقع اليهود في العالم وحسب، بل غيّرنا نحن.
منذ أعلن دولته إسرائيل، وهو يشنّ الحروب علينا، ويعمل على تغييرنا، في واقعنا ووجودنا وأفكارنا وشخصيتنا وتاريخنا…ولا زال.
متى نتمكن من تغييره؟
——————————–
اقرأ لـ نزار سلّوم في الموضوع نفسه:
اللوح السابع: آلهة التكنولوجيا في خدمة أنبياء الكتاب.
اللوح السادس: حربٌ أخيرةٌ فاصلة…مَن يريدها؟
اللوح الخامس: اليوم التالي: إعادة إعمار “سطح القمر”؟
اللوح الرابع: فلسطين والعالم: “الغرب الأخير” عدونا… وأملنا!!
اللوح الثالث: تفكيك القنبلة الديمغرافيّة الفلسطينيّة