-1-
منذ إعلان المشروع الصهيوني قيام دولته إسرائيل في العام 1948، بدأت حروبنا مع هذه الدولة. تفرّدت حرب 1948 التي خاضها من جانبنا (جيش الإنقاذ) بكونها حرباً أخيرة، أي حرباً فاصلة، وبالفعل جاءت نتيجتها لتشير إلى هزيمة جيش الإنقاذ هزيمة تامة ونجاح المشروع الصهيوني في فرض إرادته وتصفير تاريخ فلسطين المعاصر ابتداءً من تلك اللحظة بعنوان: نكبة فلسطين.
الحروب اللاحقة كلّها من 1967 إلى حرب 1973 إلى حرب 1982، إلى حرب 2006 أخذت طابع الحروب الاستراتيجيّة الكبرى، ولكن بقيت خارج معنى الحرب الأخيرة الفاصلة.
-2-
شكّلت حركات وأحزاب وتنظيمات منظمة التحرير الفلسطينيّة، التي بدأت مع حركة فتح كفاحها المسلح في الأول من كانون ثاني 1965، شكّلت (النسخة الأولى) التي أنتجها المجتمع الفلسطيني بمرجعياته السياسيّة والثقافيّة في ذلك الوقت، على أنَّ هذه النسخة تطبّعت بالواقع السياسي والثقافي لما يُفترض أن يشكل عمقها الاستراتيجي خصوصاً كيانات: الأردن والشام والعراق ولبنان، إضافة لمصر، ما أحالها من كونها حاملاً لمشروع استعادة فلسطين – في يومٍ ما شكلت أملاً بحامل تغييري للبنية السياسيّة لعمقها الاستراتيجي نفسه -، إلى كونها (وجوداً فائضاً) على منصّة لم تعد بأهلها وبأعدائها في آن تحتمل وجودها، فانتهى بها الأمر بعد سلسلة من الأخطاء الكبرى إلى تدمير ذاتها وإعادة إنتاجها على هيئة حكم ذاتي في مقاطعة رام الله، والذي بمعايرته يمكن التيقن بأنه لا يمتلك في بنيته / تكوينه مقومات القدرة على حمل المشروع الفلسطيني حتى بدرجة دولة مستولدة من حلّ الدولتين الشهير والمتداول دائماً.
في سياق تنامي بيئة الإسلام السياسي وتعاظم وجودها ابتداءً من نهاية سبعينيات القرن العشرين، أنتج المجتمع الفلسطيني (النسخة الثانيّة) من حركات وتنظيمات قدمت نفسها كحامل للمشروع الفلسطيني المجهض مع منظمة التحرير الفلسطينيّة. (حماس) هي التنظيم القائد لهذا المشروع تعود في مرجعيتها إلى حركة الإخوان المسلمين، المعنيّة في دعوتها الرئيسة بعودة نظام الخلافة وتطبيق الشريعة المحمديّة كما تراها وتفسرها وتقدمها.
حَكَمَ التناقض الفكري والسياسي العلاقة بين (النسختين)، فانشطر المجتمع الفلسطيني ووقع أسير هذا الانشطار في ظلّ عجزه عن إنتاج بديل قادر على وضع المشروع الفلسطيني على حامل يخرجه من واقع هزيمة النسخة الأولى (منظمة التحرير) والتكوين المنقوص بفعل المرجعيّة الدينيّة المذهبيّة للنسخة الثانيّة (حماس) التي تعتمد الجهاد المسلح في مواجهة المشروع الصهيوني ودولته الممتدة على معظم الأراضي الفلسطينيّة.
-3-
في موازاة هذا التغير الذي حدث في فلسطين، شهد لبنان تغيراً كبيراً بعد تعثّر مسيرة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة التي انطلقت بعيد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في حزيران 1982. كان ثمة فرصة تاريخيّة آنذاك كي تتبلور تلك المقاومة كحركة تحرير قادرة على استقطاب مختلف نزعات وإرادات المقاومة الناشئة في البيئة التي كانت أساساً حاضنة لمنظمة التحرير الفلسطينيّة التي تم تشتيتها بعد إجبارها على الخروج من لبنان. وهي بيئة يتمثل مركزها في حاضرة الهلال الخصيب، وتمتد في تأثيراتها إلى دول عربية وإقليميّة وعالميّة.
النهاية المأساويّة للمقاومة الوطنيّة اللبنانيّة، لم تكن بفعل هزيمة أمام عدوها إسرائيل ولا بفعل اتفاق سلام معها، بل بفعل اتفاق الطائف 1989 الذي وضع حداً للحرب الأهليّة في لبنان، ورسم نظاماً سياسيّاً معدّلاً عن نظامه القائم منذ الاستقلال تحت عنوان الميثاق اللبناني أو التعايش الطائفي.
وفق اتفاق الطائف، تم اعتبار كل القوى التي تحمل السلاح ميليشيات يجب أن تسلّم سلاحها. الأحزاب التي شكّلت المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة بمكونيها الرئيسين: الحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب الشيوعي، لم تتمكن من إخراج المقاومة من تحت عنوان الميليشيا التي اشتركت في الحرب الأهليّة. أذعنت وسلّمت سلاحها وختمت مسيرة مقاومتها في الجنوب على نحو مأساوي مؤلم.
حزب الله، كان حاضراً وخارج معادلة الطائف. ومذ تم تأسيسه على مراحل في بداية ثمانينيات القرن العشرين، شكّل المثال الأبرز لتجلّي الثورة الخمينيّة خارج إيران. منذ تلك اللحظة ستُحصر صفة المقاومة به وحيداً، ليشكل المقاومة الاسلاميّة المذهبيّة المستندة استراتيجياً إلى العمق الشامي ومرجعيّاً إلى الجمهورية الاسلاميّة في إيران.
على هذا النحو، استأثرت الحركات الإسلاميّة بموقع مقاومة إسرائيل في فلسطين (غزّة) عبر حماس والجهاد، وفي لبنان عبر حزب الله. مشاركات القوى الوطنية والقوميّة معها جاءت محدودة وفي إطار الدور الذي يحتاجه التنظيم المقاوم – القائد حتماً.
-4-
وصفيّاً، الجبهات العسكريّة المباشرة مع إسرائيل: جبهة غزّة بقيادة حماس ومشاركة الجهاد الإسلامي، وجبهة جنوب لبنان بقيادة حزب الله ومشاركة محدودة ومدروسة من قبل الحزب السوري القومي الاجتماعي، والجماعة الاسلاميّة، وحركة أمل.
الجبهات التي تخضع للجيوش النظاميّة، ساكنة بفعل اتفاقيات السلام (مصر، الأردن)، وقلقة دون ضوابط معروفة (جبهة الجولان) بعد التغير الهيكلي الذي فرض على الجيش السوري انتشاراً على مدى الصراع الواسع الذي خاضه ابتداءً من العام 2011.
إيران، هي المرجعية الداعمة لجبهتي غزّة وجنوب لبنان المباشرتين، ولقوى وحركات وتنظيمات حليفة وداعمة من بعيد في العراق واليمن.
-5-
في الثامن من تشرين أول 2023 بدأت إسرائيل حربها ضد غزة، ومنذ اللحظة الأولى أعلنت أنها لن تتوقف حتى القضاء على حركة حماس عسكريّاً. لم تكن العملية العسكريّة الإسرائيليّة ولا في أي وقت منذ بدايتها أقل من إبادة جماعيّة، وإلى هذا اليوم قامت بتدمير قطاع غزة تدميراً تاماً وأحالته إلى بيئة قتيلة ميتة غير صالحة للحياة.
إنْ نجحت إسرائيل في النهاية بتحقيق هدفها المعلن المتمثل بالقضاء على حماس، تكون قد قضت تماماً على المواجهة العسكريّة مع حركات ومنظمات وأحزاب الكفاح المسلح الفلسطيني الذي بدأ مطلع العام 1965، ما يعني أنَّ فصلاً تاريخيّاً من الصراع سيطوى، وأنَّ فصلاً آخر سيُفتح ومن المُبكر الحديث عن مكوناته وطبيعته وأدواته، وما إذا كان المجتمع الفلسطيني قادراً وبسرعة على التعامل مع هذا الواقع الجديد؟
في جبهة جنوب لبنان، حددت إسرائيل هدفها بعدم العودة إلى (ما قبل 7 تشرين أول 2023)، والدفع بحزب الله لإخلاء المنطقة الواصلة إلى ما بعد نهر الليطاني. بطبيعة الحال هذا طلب يستحيل أن يستجيب له حزب الله، ليس لأسباب عسكريّة وحسب، بل لأنه يستهدف في حقيقته إحداث تغيير هيكلي كبير ومفتوح على احتمالات تصل إلى خريطة جديدة لـ (الجماعات الطائفيّة)، خريطة لن تتمكن من الاستقرار ورسم حدودها الجديدة إلاّ بدماء أهلية غزيرة، هذا الهدف المُقنّع خلف الطلب الإسرائيلي، يفسّر موقف بعض قادة الأحزاب والطوائف من الحرب في الجنوب وأبعادها الوجوديّة ” وليد جنبلاط مثالاً”، الذي يعرف ما هي تكلفة هزيمة حزب الله ودفعه مع بيئته شمال الليطاني؟
-6-
الآن، وبعد وصول إسرائيل إلى قلب ضاحية بيروت “اغتيال فؤاد شكر”، وإلى قلب طهران “اغتيال إسماعيل هنية”…ماذا بعد؟
التساؤل الرئيس هنا: هل ستقع الحرب الأخيرة الفاصلة؟ ومَن يريدها؟ ومَن لا يريدها؟
دون أدنى شكّ، وبوضوح شديد، إسرائيل تمارس حربها في غزّة ليس بمنطق الحرب الأخيرة الفاصلة وحسب، بل بمنطق (الحل النهائي): إبادة جماعيّة ومحرقة وتهجير ومن ثم (إعادة بناء).
أيضاً، وبوضوح شديد، تعمل إسرائيل على توفير مختلف العوامل التي تؤدي إلى نشوب حرب أخيرة فاصلة مع حزب الله في لبنان، ومع إيران. وهذه العوامل تعود في أولها إلى الدفع بإيران وحزب الله إلى الخروج من شروط ومحددات الاشتباك الحربي على النحو الذي يقودهما تلقائياً إلى الحرب الفاصلة، كما تعود في ثانيها إلى إجبار الولايات المتحدة على أن تكون طرفاً إلى جانب إسرائيل في هذه الحرب التي لا يمكن لها أن تخوضها دونها.
ماذا في الجانب المقابل؟
حزب الله، من بداية فتح جبهة الجنوب بعد عملية حماس في 7 تشرين أول 2023، حدد الهدف من اشتراكه في هذه المعركة بكونه (عملية إسناد) لتخفيف الضغط على غزّة. كان واضحاً في القول بأن المعركة ليست معركته لا إعداداً ولا قراراً، ولكنه لن يتخلى عن مساندة حركة حماس، وهو جاهز للتوقف إن توصلت الحركة إلى اتفاق لوقف النار مع إسرائيل.
أي، حزب الله لا يريد الوصول إلى حرب أخيرة فاصلة الآن، وإنْ قال أنّه مستعد لخوضها إن وقعت واختارتها إسرائيل.
إيران، وبوضوح قالت بأنّها لا تريد الوصول إلى حرب كبرى واسعة وإقليميّة، بل تريد ممارسة حقها الموازي لحق إسرائيل في الردّ عليها. أي هي تريد البقاء ضمن شروط الاشتباك القائم على كونها داعماً ومرجعاً لحركات المقاومة، ولكن في حدود الساحات التي تقاتل فيها هذه الحركات إسرائيل، وليس في ساحتها وأرضها.
-7-
تتردد عبارة (الصبر الاستراتيجي) كثيراً، باعتبارها وصفاً لاستراتيجيّة إيران وحزب الله سويّة في مواجهة إسرائيل.
العبارة، لا تحمل المعنى اللغوي والمباشر لها، أي الصبر مهما كانت الشدائد والنوائب والمصائب والهزائم والأضاحي، بل تنطوي على رؤية متكاملة تتعامل وفقها إيران مع حزب الله في مواجهة إسرائيل.
تتأسس هذه الرؤية على إقامة حزام قوي ومتماسك، يشكّل (كتلة ضغط) على بنية المشروع الإسرائيلي في مختلف حقوله السكانيّة، والاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والعسكريّة. في التشخيص الخاص بهذه الرؤية: المشروع الإسرائيلي لا يحتمل مثل هذا الضغط لوقت طويل ومن المؤكد أنّه سيتفكك وسيصاب بعوامل الضعف مع زيادة الضغط وتفادي خوض معركة أخيرة فاصلة معه عندما يريد للخلاص من هذا الضغط. ربما لهذا السبب قال مرة المرشد الأعلى علي خامنئي إنَّ العمر المتبقي لإسرائيل لن يتجاوز 25 عاماً؟
لكن الحزام (المحور) يتعرض الآن لضربة قويّة خصوصاً في غزّة، فإن تمكنت إسرائيل من القضاء على حماس تماماً، فهذا يعني أن الحزام لم يعد حزاماً، وأن (الصبر الاستراتيجي) يفقد فاعليته مع تفكك كتلته الضاغطة.
إزاء ذلك هل تكون الحرب الأخيرة الفاصلة قدراً لا يُرد؟
بلى، هزيمة حماس في غزة تعني هزيمة (المحور). تعني هزيمة المعنى المقاوم لحزب الله، كما تعني هزيمة البعد الفلسطيني في الرؤية الخمينيّة المؤسسة لاستراتيجيّة الجمهوريّة الاسلاميّة الإيرانيّة.
لذلك تتصرف إسرائيل، في هذه الحرب، باعتبارها “فرصة تاريخيّة” لها قد لا تتكرر أبداً.
-8-
القضيّة الفلسطينيّة على أبواب فصل تاريخي جديد. فصل سُيفتح في غزّة ولكن فقراته ستصل طهران.
______________________________
اقرأ لـ نزار سلّوم في الموضوع نفسه:
اللوح الخامس: اليوم التالي: إعادة إعمار “سطح القمر”؟
اللوح الرابع: فلسطين والعالم: “الغرب الأخير” عدونا… وأملنا!!
اللوح الثالث: تفكيك القنبلة الديمغرافيّة الفلسطينيّة
قراءة معمقة أشبه ما تكون بالدرس السياسي والاستراتيجي للذين يستخفون بما يجري في لبنان وقطاع غزة، أي المعركة المفصلية التي تمتد نارها لى كل من دمشق وطهران والبحر الأحمر.، وربما إلى ما هو أبعد بكثير.